مصر ورمضان ومعانقة الحياة

3-3-2025 | 15:30

في زحام الأيام، حيث تتسارع الدقائق في سباق محموم مع الزمن، يأتي رمضان كعاشق قديم يطرق باب الروح برفق. شهر ليس كالأشهر، زمن ليس ككل الأزمنة. إنه لحظة ترتدي فيها الروح حُلتها البيضاء، وتغتسل الأيام بماء اليقين، كأنّ العالم كله يتوضأ استعدادًا لصلاة طويلة في محراب الصفاء.
  
في لياليه، تتراقص أضواء الفوانيس كنجوم صغيرة هبطت إلى الأرض، كأنها تضيء العتمة بشيء من حنين، بشيء من طفولة خبأناها بين طيّات العمر. الفانوس ليس مجرد ضوء، إنه ذاكرة معلّقة في زوايا القلب، يلمع كلما عاد رمضان ليوقظ فينا دفء الأماسي القديمة، حيث كنا نركض تحت قناديله كأننا نطارد الفرح بين ألوانه المتوهجة.  

والزينة، تلك الأوراق الملوّنة التي تمتد بين الشوارع كأذرع ممدودة للعناق، كأنها تحاول أن تلمس السماء فرحًا، وكأنها ترسم ابتسامة على وجه المدينة التي تغسل همومها مع أول ليلة من الشهر الكريم. ألوانها ليست مجرد زينة، بل قصائد من فرح، أنشودة كتبتها الأرواح على نوافذ البيوت، تحكي عن بهجة لا تشيخ، وعن ضحكات لا تنطفئ مهما تكالبت الأيام. 
 
أما روحانيات رمضان، فهي السرّ الذي يميزه عن كل الشهور. ثمة شيء في الهواء يشبه السكينة، يشبه اليقين بأننا حين نجوع، إنما نكتشف قيمة الامتلاء الحقيقي، وحين نعطش، إنما نرتوي من بئر الروح. إنه الشهر الذي تصير فيه الأرواح خفيفة، كأنها تمشي على أطراف أصابعها، لا تريد أن تزعج ضوء القمر، ولا أن تكسر صمت السَّحَر.  

رمضان ليس مجرد شهر، إنه حالة وجدانية ننتظرها كل عام، ونتعلق بأهدابها كطفل صغير يمسك يد أمه في زحام الحياة، خشية أن يفقدها.

ومن شرفات تلفاز بعيد، ينساب صوت "وحوي يا وحوي" كنسمة حنين، كأن الزمن لم يمضِ، وكأن الطفولة ما زالت تلهو بين أزقة الذاكرة. نرددها اليوم كما رددناها صغارًا، وكما سيرددها أطفال لم يولدوا بعد، لأن للأغاني العتيقة قدرة عجيبة على مقاومة النسيان، على الاحتفاظ بمكانها في وجدان مدينة تتغير ملامحها كل يوم. ثم يأتي صوت "مرحب شهر الصوم، مرحب" كإعلان صامت عن دخولنا في حالة احتفاء جماعي، حيث تعود لياليه بأمان، فتتلألأ القناديل، وتُفرش الطرقات بوهج الفرحة.  

في زحام الذكريات، يطلّ علينا فؤاد المهندس وشويكار، بضحكاتهما التي لم تهزمها السنون، في دويتو "الصيام مش كده"، كأنهما يعيدان تمثيل مشهد من حياتنا الأسرية اليومية، حين يصبح الجوع بطل المشهد، والصبر حكاية نرددها قبل الإفطار. ثم يأتي صوت صباح، في مزاحها الجميل مع المهندس في "الراجل ده هيجنني"، وكأن رمضان ليس مجرد شهر للعبادة، بل موسم للحب الخفيف، للضحك الذي يتسلل إلى موائدنا كتوابل لا غنى عنها.  

ورغم أن الدوائر التي كان الأطفال يرسمونها في الشوارع، حاملين فوانيسهم المضاءة، بدأت تضيق لصالح مشهد أكثر صخبًا، حيث تصدح الشوارع بأصوات الصواريخ والمفرقعات التي تفزع الصغار قبل الكبار، وتسرق من ليالي رمضان شيئًا من طمأنينتها، إلا أن تلك الضوضاء العابرة لم تستطع أن تنافس دفء "وحوي يا وحوي"، ولم تجرؤ على انتزاع البهجة من قلوب تعلّمت كيف تخلق الفرح، مهما تبدّلت العادات وتغيرت الملامح. وهكذا، يبقى رمضان كما عهدناه، شهرًا يحمل إلينا ذاكرة الصوت والضوء، من الأغنيات القديمة وحتى تلك التي تضاف كل عام إلى تراثه البهيّ، لكنه يظل محتفظًا بسحره الأصيل، كحكاية لا يملّ الزمن من إعادة روايتها.

وكم كانت صادقة تلك الكلمات: "رمضان في مصر حاجة تانية والسر في التفاصيل"، لكنه ليس وحده، فمصر كلها، بكل ما فيها ومن فيها، دائمًا حاجة تانية؛ ليست مجرد وطن، بل حكاية ممتدة في الزمن، مكتوبة بمداد التراث والعادات، وممهورة ببصمة شعبها الذي يختصر المعاني الكبيرة في طقوس بسيطة لكنها باذخة الدفء. في شوارعها المضيئة، في أسواقها التي تضج بالحياة، في بيوتها التي تنفتح على بعضها كأنها عائلة واحدة، تسري الروح المصرية كضوء الفوانيس في ليل رمضان، كأنها توقظ المدن والقرى والنجوع على نغم مشترك من الحنين والفرح والتواد.  

وفي عالم يزداد ضجيجه بالآلات الذكية، والأسلحة التي تهدد الحياة أكثر مما تحميها، والذكاء الاصطناعي الذي يطارد الإنسان ليحيله إلى كائن رقمي بارد، تظل مصر بقوتها الناعمة درسًا حيًا في معنى العيش. ليس تطورًا رقميًا ولا سباقًا محمومًا نحو المستقبل، بل فنٌ يومي في الحفاظ على وهج الإنسانية، على تلك التفاصيل الصغيرة التي تجعل للحياة طعمًا ومعنى. ورغم كل التحديات، من أزمات اقتصادية إلى اضطرابات سياسية، يظل رمضان في مصر كما كان دائمًا: شهرًا من البهاء العفوي، حيث تلتقي الأرواح قبل الأجساد، وحيث تبدو الأيام وكأنها تعزف لحنًا خالداً من الألفة والتراحم.  

في المساء، تمتد موائد الإفطار، ليست مجرد طعام، بل سيمفونية من العطاء، طبقٌ يخرج من بيت ليعود بصنف آخر، كأن كل شارع عائلة واحدة، وكل مائدة امتدادٌ لمائدة أخرى. كما قالت أم سعيد في "عسل أسود": "الطبق ده بيلف العمارة كلها في رمضان"، ليست مجرد جملة، بل فلسفة حياة تُترجم ببساطة عميقة روح هذا الشهر الكريم. الجيران يتبادلون الأطباق كما يتبادلون الدعوات الصادقة، موائد الرحمن تستقبل الجميع، لا يُسأل أحد عن اسمه أو مهنته، فالكرم هنا بلا حساب، والرحمة بلا مقابل.  

في الشوارع، شباب يوزعون التمر والماء للمارة قبل الأذان، يطوفون ببهجة العطاء، يلقون النكات، يتبادلون الضحكات، وكأن الفرح فرض من فرائض الشهر. ثم يُنادى لصلاة التراويح، وتصطف الصفوف، كتفًا بكتف، قلبًا بقلب. وبعد الصلاة، يبدأ الليل المصري الطويل، حيث تمتد السهرات بين العائلة والأصدقاء، ويظل في القلب متسعٌ للتراويح والتهجد وقراءة الذكر الحكيم، حتى يتسلل الفجر خفيفًا، معلنًا بداية يوم جديد من أيام مصر الجميلة، التي تظل دائمًا وأبدًا حاجة تانية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة