فرض الله الصيام لحكمة عظيمة تتجاوز مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، فهو تهذيب للنفس، وتدريب على التقوى، وتجديد للعلاقة بين العبد وربه، كما أنه وسيلة لتذكير الإنسان بضعفه وحاجته إلى الله، وتعزيز الشعور بالتضامن مع الفقراء والمحتاجين.
لكن تحول شهر رمضان من موسم للعبادة والتقوى إلى موسم للطعام والإسراف، ويكاد يضع كل رب أسرة يده على قلبه طالبًا من الله "الستر" كلما اقترب الشهر الكريم، بدلًا من أن يكون رمضان شهرًا للترشيد، ما يعني تحقيق إحدى أهم المقاصد من الصيام، لكن واقع الحال في رمضان غير ذلك، إذ تنقلب الموازين ويصبح الإفطار والسهرة محور الاهتمام، مما يفقد الصيام الكثير من مقاصده الروحية والتربوية.
فالصيام ليس مجرد ترك للطعام والشراب، بل هو تدريب على ضبط النفس والتحكم في الرغبات؛ قال الله تعالى في كتابه الكريم: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة: 183). فالتقوى هي الغاية الكبرى للصيام، وتعني أن يكون الإنسان أكثر وعيًا بأفعاله وكلماته، وأكثر قدرة على الابتعاد عن المعاصي والمحرمات.
كما أن الصيام يعزز الإخلاص، حيث إنه عبادة خفية بين العبد وربه، لا يعلم صدقها إلا الله، بخلاف الصلاة أو الزكاة التي قد يراها الناس؛ فهو اختبار حقيقي للإيمان والنية الصادقة.
إضافة إلى ذلك، يعلمنا الصيام الصبر والتحمل، فالمسلم يصبر على الجوع والعطش، ويتعلم كيف يتحكم في غضبه ورغباته، وهو ما ينعكس إيجابًا على سلوكياته في بقية العام.
إلى جانب فوائده الروحية، يسهم الصيام في تحسين الصحة الجسدية والنفسية. فقد أثبتت الدراسات أن الامتناع عن الطعام لساعات معينة يساعد على تحسين وظائف الجهاز الهضمي، وتعزيز عملية التمثيل الغذائي، والتخلص من السموم المتراكمة في الجسم، كما أن الصيام يحفز الجسم على استخدام الدهون المخزنة كمصدر للطاقة، ما يسهم في تقليل الوزن الزائد ومكافحة السمنة.
أما من الناحية النفسية، فإن الصيام يعزز الشعور بالراحة والطمأنينة، حيث يقلل من التوتر والقلق، ويجعل الإنسان أكثر تركيزًا وصفاء ذهنيًا. كما أن الالتزام بالصلاة والذكر خلال رمضان يسهم في تحقيق توازن نفسي وروحي، وهو ما يعزز الشعور بالسعادة والرضا الداخلي.
رغم هذه الأهداف النبيلة، نجد أن بعض الناس يغيرون نمط حياتهم في رمضان بشكل يتناقض مع مقاصد الصيام. يتحول الشهر إلى مناسبة للإفراط في الأكل، حيث تمتلئ الموائد بأنواع لا حصر لها من الأطعمة والمشروبات، مما يؤدي إلى مشكلات صحية وزيادة الوزن بدلًا من تحقيق الفوائد الصحية للصيام، كما أن الإسراف في الطعام يتناقض مع روح الزهد والتقشف التي يدعو إليها الصيام، خاصة في وقت يعاني فيه الكثيرون من الفقر والجوع.
ومن المظاهر الخاطئة أيضًا أن البعض يسهرون حتى وقت السحور في جلسات ترفيهية أو أمام شاشات التلفاز، وينامون طوال النهار، فيتحول الصيام إلى مجرد تغيير في مواعيد النوم والطعام بدلًا من كونه عبادة تهدف إلى تهذيب النفس والارتقاء بالروح.
للاستفادة الحقيقية من رمضان، يجب علينا العودة إلى جوهر الصيام، وجعله فرصة لإعادة تهذيب النفس وتعزيز الإحساس بالفقراء، فيجب أن يكون الإفطار متوازنًا، لا يرهق المعدة ولا يبدد بركة الصيام، وأن يكون التركيز على العبادات، مثل الصلاة، وقراءة القرآن، والتصدق، بدلًا من الانشغال بالمأكولات والمشروبات، كما يجب أن نحرص على الاعتدال في كل جوانب حياتنا خلال رمضان، سواء في الطعام أو النوم أو غيرها من العادات اليومية.
خلاصة القول؛ أن رمضان ليس شهرًا للطعام، بل هو شهر الصبر والتقوى، حيث يتعلم المسلم أن يكون متحكمًا في رغباته، لا أن يكون عبدًا لها؛ فإذا التزم المسلم بمقاصد الصيام الحقيقية، فإنه سيخرج من رمضان بروح نقية وجسد أكثر صحة وعقل أكثر اتزانًا، وبالتالي يحقق تمام الحكمة من الصيام، مما ينعكس إيجابًا على حياته بأكملها.