في تاريخ الإمبراطوريات العظيمة، هناك دائمًا خيط مشترك يربط بين سقوطها الأخلاقي وسقوطها السياسي، فما يبدأ بتراجع في القيم والمبادئ، ينتهي بانهيار في الهياكل السياسية والاجتماعية، واليوم، تبدو الولايات المتحدة وكأنها تسير على نفس الخطى، خاصة مع صعود التيار "الترامبي" الذي يعيد تشكيل وجه أمريكا، ليس فقط داخليًا، ولكن أيضًا في نظر العالم.
لطالما قدمت الولايات المتحدة نفسها كنموذج للديمقراطية والحرية، جاذبةً إعجاب الكثيرين حول العالم،
لكن هذا النموذج بدأ يتآكل تحت وطأة الرأسمالية الشرسة التي تضع الربح فوق الإنسان، وتتحلل من أي التزامات أخلاقية أو إنسانية تجاه العالم، فبدلًا من أن تكون قوة تنشر العدل والسلام، أصبحت أمريكا تُنظر إليها على أنها قوة تناصر الظلم، وتستخدم قوتها الخشنة لفرض إرادتها، دون اكتراث بالقيم التي ادعت دائمًا أنها تدافع عنها.
الترامبية، بكل ما تحمله من شعبوية واستقطاب، ليست ظاهرة سياسية عابرة، بل هي تعبير عن تحول أعمق في بنية المجتمع الأمريكي، إنها تعكس تراجعا في القيم الجماعية، وانزياحًا نحو الفردية المفرطة، حيث لم يعد هناك مكان للالتزامات المشتركة أو المسئولية تجاه الآخر.
هذا التحلل الأخلاقي لا يظهر فقط في السياسة الخارجية، بل أيضًا في الداخل، حيث يتم تفكيك المؤسسات والتقاليد السياسية الراسخة، مما يهدد بزعزعة الاستقرار الذي ظل قائمًا لعقود.
قد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تظهر الآثار الكاملة لهذا التحلل، لكن المؤشرات واضحة، فالإمبراطوريات لا تسقط بين ليلة وضحاها، بل تتراجع تدريجيًا، بدءًا من الداخل، وعندما تفقد الإمبراطورية قدرتها على تقديم نموذج أخلاقي وسياسي يُحتذى به، فإنها تفقد شرعيتها وقوتها الناعمة، التي كانت دائمًا أهم من قوتها العسكرية.
التاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات التي تخلت عن قيمها، وسعت فقط وراء المصالح المادية، كانت مصيرها الانهيار، روما، بريطانيا، والعديد من الإمبراطوريات الأخرى، كلها سقطت عندما فقدت التوازن بين القوة والأخلاق، والولايات المتحدة، على الرغم من قوتها الهائلة، ليست استثناءً من هذا القانون التاريخي.
استمرار التيار الترامبي،مع عودة ترامب الصاخبة للبيت الأبيض، سيؤدي إلى مزيد من التآكل في النسيج الأخلاقي والسياسي لأمريكا، وإذا لم يتم وقف هذا الانحدار، فإن السقوط سيكون حتميًا، فالإمبراطوريات تُبنى على القيم، وتسقط عندما تتحول تلك القيم إلى مجرد شعارات فارغة.
السؤال الآن، ليس ما إذا كانت أمريكا ستسقط، بل متى وكيف، والإجابة تعتمد على قدرتها على استعادة قيمها الأخلاقية، وإعادة بناء نموذجها السياسي الذي كان يومًا مصدر إلهام للعالم، وإلا، فإنها ستسير على خطى الإمبراطوريات البائدة، وتصبح مجرد فصل آخر في كتاب التاريخ.
الخطر الأكبر: فقدان الشرعية العالمية
ما يجعل السقوط الأخلاقي لأمريكا أكثر خطورة هو تأثيره على هويتها كقوة عالمية، فالإمبراطوريات لا تقوم فقط على القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل أيضًا على شرعيتها الأخلاقية وقدرتها على إلهام الآخرين، وعندما تفقد هذه الشرعية، تبدأ في فقدان نفوذها وقدرتها على قيادة العالم، وهذا بالضبط ما نراه اليوم.
الولايات المتحدة، التي كانت تُعتبر "شرطي العالم" ومدافعًا عن الحريات وحقوق الإنسان، أصبحت تُنظر إليها على أنها قوة تعمل لمصلحتها الخاصة فقط، دون اكتراث بالعواقب الأخلاقية أو الإنسانية، هذا التحول ليس فقط في سياساتها الخارجية، بل أيضًا في الخطاب السياسي الداخلي الذي أصبح أكثر انقسامًا واستقطابًا، فالترامبية، بخطابها الشعبوي، لم تعمق الانقسامات الداخلية فحسب، بل أظهرت للعالم أن أمريكا لم تعد ذلك النموذج المتماسك الذي كان يُحتذى به.
تفكيك المؤسسات: بداية النهاية
أحد أهم أسباب تراجع الإمبراطوريات هو تفكيك مؤسساتها السياسية والاجتماعية، وفي أمريكا، نرى هذا التفكيك يحدث على مرأى من الجميع، المؤسسات التي كانت تُعتبر ركائز الديمقراطية الأمريكية، مثل الكونجرس والقضاء ووسائل الإعلام المستقلة، تتعرض لهجمات متكررة من قبل التيار الترامبي، الذي يسعى إلى تقويضها لصالح سلطة أكثر مركزية واستبدادية.
هذا التفكيك لا يهدد فقط الاستقرار الداخلي لأمريكا، بل يضعف أيضًا قدرتها على التعامل مع التحديات العالمية، فبدلًا أن تكون قوة متماسكة وقادرة على قيادة التحالفات الدولية، أصبحت أمريكا تُظهر ترددًا وانقسامًا، مما يفتح الباب أمام قوى أخرى لملء الفراغ الذي تتركه.
العالم يتغير.. وأمريكا تتخلف
في الوقت الذي تتجه فيه أمريكا نحو مزيد من الانعزالية والتحلل الأخلاقي، يتغير العالم من حولها بسرعة، الصين، على سبيل المثال، تتصاعد كقوة عالمية جديدة، ليس فقط اقتصاديًا وعسكريًا، بل أيضًا من خلال تقديم نموذج بديل للحكم، وعلى الرغم من انتقادات الغرب للنموذج الصيني، إلا أن الكثير من الدول النامية ترى فيه بديلًا جذابًا، خاصة في ظل تراجع النموذج الأمريكي.
أوروبا أيضًا، على الرغم من التحديات التي تواجهها، تحاول الحفاظ على قيمها الديمقراطية والإنسانية، وتقدم نفسها كقوة معتدلة في عالم مليء بالاضطرابات، أما أمريكا، فبدلًا أن تكون في طليعة هذا التغيير، تبدو وكأنها تتخلف عن الركب، عالقة في صراعاتها الداخلية وانقساماتها.
إنقاذ أمريكا من هذا المصير يتطلب إعادة النظر في أساسياتها، فبدلًا من التركيز فقط على القوة العسكرية أو الاقتصادية، يجب أن تعود إلى قيمها الأساسية: الديمقراطية، العدل، واحترام حقوق الإنسان، هذا لا يعني العودة إلى الماضي، بل إعادة تعريف دورها في عالم جديد يتطلب قيادة أخلاقية وسياسية.
الخطر الحقيقي ليس في أن تفقد أمريكا مكانتها كقوة عظمى، بل في أن تفقد روحها كأمة كانت تُعتبر رمزًا للحرية والفرص، فالإمبراطوريات قد تسقط، ولكن القيم التي تمثلها يمكن أن تبقى، والسؤال الآن هو: هل ستتمكن أمريكا من استعادة هذه القيم قبل فوات الأوان؟ أم أنها ستسير على خطى الإمبراطوريات البائدة، وتصبح مجرد ذكرى في كتب التاريخ؟
التاريخ يعيد نفسه، ولكن الدروس المستفادة منه تبقى خالدة، والسقوط الأخلاقي ليس حتميًا، إذا ما تم الاعتراف به والعمل على تصحيحه قبل أن يصبح السقوط السياسي أمرًا لا مفر منه.
abdelsalamfarouk@yahoo،com