مساء يوم الإثنين الماضي 24 فبراير، لبيت دعوة كريمة من سعادة سفير اليابان بالقاهرة، إيواي صن، لحضور حفل استقبال، ضم نحو 370 مدعوا، ابتهاجا باليوم الوطني، المتزامن مع مرور 65 عاما، على ميلاد جلالة الإمبراطور ناروهيتو.
حفل الاستقبال توج بلمسات يابانية مبهجة بامتياز، ومن الطبيعي أن يظهر الاحتفال في صورته النهائية المتقنة، تمشيا مع توقعات المدعوين -الدائمة- وثقتهم -المطلقة- في كل ما هو منتج ياباني، أو مقدم، أو معروض للبيع، في بلاد الشمس المشرقة.
من بين فقرات الحفل، قدمت فرقة "ودايكو-ريسنج صن" للطبول اليابانية-التي تزور مصر-عرضا موسيقيا مفعما بالقوة، أيقظت في أعماقي حنينا، ومشاعر دافئة تجاه اليابان، وذكريات لن يمحوها الزمن، بالرغم من برودة الطقس في تلك الليلة.
إضافة إلى هذه المشاعر الدافئة، أيقظت -بداخلي- دقات طبول الفرقة اليابانية، عددا من الخواطر، وسيلا من المؤشرات، التي لمستها -بنفسي- إما في أثناء زياراتي المتكررة لليابان (آخرها في شهر أكتوبر الماضي)، أو ما تتناقله الميديا المحلية -بانتظام وبدون تعتيم- عما يجري هناك من تطورات، بعضها إيجابي، والآخر سلبي.
أبدأ بالإيجابي، حيث زار اليابان العام الماضي، 2024، نحو 36.8 مليون سائح وهو ما يتجاوز الرقم القياسي قبل جائحة كورونا في 2019 بنحو 5 ملايين زائر، أو بنسبة 15%. ومقارنة بأعداد السائحين في عام 2019، ارتفع عدد السائحين الأمريكيين بنسبة 58.1%، ومن كوريا الجنوبية بنسبة 57.9%، ومن تايوان بنسبة 23.6%، فيما انخفض عدد الزائرين لليابان من الصين بنسبة 27.2%.
في الوقت نفسه، ارتفع حجم إنفاق السائحين باليابان في عام 2024 بنسبة 69%، مقارنة بعام 2019، ليبلغ نحو 51.8 مليار دولار، وتسعى طوكيو لزيادة الرقم إلى 60 مليونًا، ومضاعفة إنفاقهم لأكثر من 95 مليار دولار بحلول 2030.
وهي تخطط للوصول إلى هذه المعدلات، تواجه اليابان تحديًا في التعامل مع ما تسميه "السياحة المفرطة"، أي التدفق الهائل من الزائرين الأجانب للبلاد، باتخاذ تدابير لتخفيف تركز الزوار في المناطق الحضرية الكبرى الثلاث -التي تتضمن العاصمة طوكيو- من خلال تشجيع الزيارات إلى المناطق الإقليمية الأقل ازدحامًا.
التدفق المفاجئ للسائحين الأجانب (السياحة المفرطة) تسبب في إحداث ضغوط هائلة على البنية التحتية اليابانية، ومعاناة مناطق من نقص المرافق العامة مثل مواقف السيارات، والحمامات، ووسائل النقل، بالإضافة إلى الاختناقات المرورية، كما تسبب في مشكلات بيئية، مثل: تراكم النفايات، والإضرار بالمساحات الطبيعية.
أيضًا، ظهرت تحديات ثقافية تتعلق باحترام العادات والتقاليد اليابانية، وتحديدًا في القرى الريفية، والينابيع الساخنة، مثل: التحدث بصوت عالٍ في الأماكن الهادئة، أو انتهاك القواعد المتعلقة بالتصوير الفوتوغرافي، ودخول مناطق خاصة دون إذن!
بمناسبة الحديث عن التدفق السياحي الهائل إلى اليابان، أود أن أشير إلى أن عدد الزوار الأجانب إلى كوريا الجنوبية ارتفع إلى ما يقرب من 93.5% من مستويات ما قبل الجائحة، ليصل إلى 16.37 مليون سائح، كما ارتفعت إيرادات السياحة بكوريا إلى 16.5 مليار دولار أمريكي، أو 79.3% من مستويات ما قبل الجائحة.
أشير -كذلك- إلى أنه لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد السائحين اليابانيين بمصر في الوقت الحالي، ووفقًا لآخر إحصائية -بخصوصها- ذكرها الخبير السياحي الدكتور زين الشيخ، زار مصر نحو 41 ألف سائح ياباني في عام 2018، وكان العدد قد اقترب من 120 ألفا في عام 2011، إلا أن المؤشرات تراجعت في السنوات التالية، نتيجة للأوضاع الأمنية الإقليمية، غير المستقرة، وكذلك الجائحة، وحرب أوكرانيا.
عينة أخرى من المؤشرات الإيجابية باليابان أعلنتها وزارة المالية، مشيرة إلى أن الفائض في موازنة عام 2024 سيصل إلى نحو 192 مليار دولار، وسجل حساب الدخل الأولي فائضا قياسيا بلغ نحو 264 مليار دولار. وتسبب ضعف الين في تضخيم قيمة الأرباح التي حصلت عليها الشركات اليابانية من فروعها في الخارج.
في الوقت نفسه، سجل الميزان التجاري عجزًا أقل، إذ بلغ نحو 25.6 مليار دولار، وواصلت أسعار النفط الخام المرتفعة دفع قيمة الواردات إلى الارتفاع، لكن الصادرات نمت أيضا بفضل الطلب القوي على السيارات ومعدات تصنيع الرقائق.
الفائض القياسي في الموازنة، وانتعاش التدفق السياحي إلى اليابان، والخشية من بلوغه حد الإفراط، قابله على الجانب الآخر ارتفاعا في حالات إفلاس الشركات للعام الثالث على التوالي في عام 2024، حيث تقدمت 9901 شركة يابانية بطلبات إفلاس العام الماضي، وهو أعلى رقم منذ عام 2013، بسبب ديونها التي لا تقل عن 10 ملايين ين، أو نحو 63 ألف دولار، وبسبب ارتفاع الأسعار، ونقص العمالة.
شهد قطاع الخدمات إفلاس 2547 شركة، بزيادة قدرها 21.3%، تبعه قطاع تجارة التجزئة بـ2087 شركة، بزيادة نسبتها 17%، وكذلك، قطاع البناء إفلاس 1890 شركة بزيادة نسبتها 13.1%. وقد واجهت الكثير من الشركات اليابانية صعوبات في التعامل مع ارتفاع تكاليف المواد، الأمر الذي جعلها تجد صعوبة في تحمل تكاليفها المرتفعة، كما كان النقص الحاد في الأيدي العاملة مشكلة أخرى.
النقص الحاد في العمالة باليابان يكمن في الانخفاض القياسي بعدد المواليد، حيث تشير الإحصاءات الحكومية الحديثة إلى أن عدد الأطفال المولودين باليابان -بمن فيهم الأجانب- في عام 2024، بلغ 720988 مولودا، وهو الأقل منذ عام 1899.
قبل عامين، كان المعهد الياباني لبحوث السكان والأمن الاجتماعي قد توقع بأن ينخفض عدد المواليد في اليابان إلى ما دون 730 ألف مولود بحلول عام 2039، ولكن هذه العتبة تم تخطيها الآن قبل خمسة عشر عامًا من بلوغ الموعد المتوقع.
أما بالنسبة للوفيات، فإن الأرقام الأولية تشير إلى أن عدد الوفيات في اليابان بلغ نحو 1.6 مليون حالة العام الماضي، وهو رقم قياسي يتجاوز بكثير عدد المواليد. ونتيجة لذلك، فإن الانخفاض العام في عدد سكان اليابان بلغ نحو 898 ألف نسمة.
يعزو مسئولو وزارة الصحة اليابانية انخفاض عدد المواليد إلى عدة عوامل، من بينها انخفاض عدد الشباب اليابانيين المؤهلين للزواج والإنجاب، وميل معظم السكان للزواج في سن متأخرة، والهبوط المؤقت بعدد الزيجات بسبب الجائحة.
بقيت الإشارة إلى عينة أخرى من المشكلات المعيشية، التي تواجه اليابانيين في هذه المرحلة، نبهتني إليها بقوة الدقات القوية لفرقة الطبول اليابانية في أثناء الاحتفال بعيد ميلاد الإمبراطور ناروهيتو بدار سكن السفير إيواي مساء يوم الإثنين الماضي، حيث طرأت ارتفاعات جنونية في أسعار السلع والخدمات، لتشمل 2343 منتجا، وهو ما يعادل نحو 3 أضعاف العدد المسجل في شهر مارس 2024.
[email protected]