أكتب هذا المقال يوم السبت، أول رمضان، وعلى لساني دعاء «اللهم بلّغنا شوّال»، وليس للدعاء علاقة بصيام ألتزم به منذ أكثر من نصف قرن.
موضوعات مقترحة
شهر رمضان كائن مصري، يستقبله الشعب بالزينات والأنوار، لرمضان وحده تتجمّل الشوارع ومداخل العمارات، ولا يُحتفل بأي عيد ديني أو وطني ببهجة انتظار رمضان. لو أن كائنًا فضائيا يبصر ولا يسمع، طاف العالم الإسلامي، فلن يتعرف على رمضان إلا هنا. في مصر فقط سيقول: «وجدته».
في طريقنا إلى بيت السناري، قبل سنوات وكان رمضان يقترب، جذبت انتباه صديقي الناقد انتشال التميمي زينات وأنوار في ميدان السيدة زينب، تجعل مسجدها لؤلؤة، فقال: لولا يقيني بأننا في القاهرة لقلت إن هذا المشهد في النجف.
لا إجماع في مصر إلا على صوم رمضان، عليه يتنافس الأطفال؛ ليحظوا بالشرف، ويعايروا أمثالهم ممن يعجزون عن الصيام حتى المغرب. حتى الذي يتكاسل عن الصلاة لا يتهاون في الصيام، عبادة وحيدة لا يطلع عليها إلا الله، فكل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فهو لله وحده.
أخرجتُ الفانوس الكبير، النائم منذ رمضان الماضي. منذ سنوات، كنا نتكلم عن توقّع رمضان غدًا أو بعد غد، فقالت ابنتي «ملك» مندهشة: «رمضان آهو!»، وأشارت إلى الفانوس. أخرجتُ الفانوس، ودفعتُ نصيبي من «زينة رمضان» الخاصة بالعمارة. وقطعت قراءاتي، لأستعيد كتاب الدكتور مصطفى الشكعة «إسلام بلا مذاهب».الدين الخالص، إسلام قبل المذاهب، فوق المذاهب، الإسلام وكفى. ودعوتُ: «اللهم بلّغنا شوّال»؛ فالشهر الذي أعرفه ـ قبل صرعة التديّن.
هو «رمضان بلا ميكروفونات»، يشبه ما ابتغاه الدكتور الشكعة بكتاب نشره في مثل هذا الشهر (رمضان، مارس) عام 1960. رمضان الذي عرفته من دون ميكروفونات، هو رمضان الإيمان. والفرق كبير بين الإيمان والتديّن. المؤمن يراقب نفسه، صائم تشغله علاقته بالله، يدعو ربه «تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً»، يتأمل قوله تعالى «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ»، يوقن بأن الله أقرب إليه «من حبل الوريد»؛ فلا يلزمه الصراخ والمجاهرة بالدعاء والتشنج والافتعال والتباكي والتظاهر بالتقوى، وبثّ القرآن من هاتفه في الميكروباص والركاب لاهون والسائق يسبّ الدين، ومع الراكب سمّاعة يستطيع بها أن ينصت إلى القرآن، لكنه متديّن يتظاهر بالتقوى.
المتنطّع يبالغ في التديّن، لا يستطيع التظاهر بالصيام، فيعوض ذلك بمراقبة منسوب تديّن الآخرين، يعطيهم نسبة مئوية مثل المدرس البليد. التنطّع انسحب من سلوك فردي إلى حالة مجتمعية تتجلى أكثر في رمضان. وينتهي الصيام فيستعيد الإسلام جزئيا صورة أقل صخبًا، بعد تنافس ميكروفونات المساجد والزوايا على إذاعة الصلوات الجهرية، والدرس اليومي بعد المغرب إلى ما بعد العشاء، وصلاة التراويح، والدروس التي تتخللها، وما يليها من أدعية مطولة تعتمد على افتعال الكلام المسجوع، بقليل من الخشوع، بصوت عالٍ «دون الجهر من القول»، حتى إن ما تضخّه ميكروفونات هذا المسجد يتداخل مع الآتي من ميكروفونات مساجد قريبة.
أما «الأدعية» المنتشرة، كالريح في كل مكان، فلم تؤثر عن النبي أو الصحابة. بدعة، عصاب جماعي يخالف آيات التضرّع. يستعيرون لفقرة الأدعية أصواتًا ونشيجًا لاستثارة دموع البسطاء، سلعة مربحة، «سبوبة»، إذ تنسخ منها أسطوانات وفلاشات تجعل وسائل المواصلات والشوارع غير آدمية. فإذا كان الدعاء نوعًا من التطهر الشخصي، الخفي، بين الإنسان وخالقه الذي يعلم السر وأخفى، فكيف يتحول إلى تجارة؟
يحدث في الشوارع أن تجد ميكروفونا يذيع قرآنا، أو مفتوحًا دائمًا على إذاعة القرآن الكريم، ميكروفون وأكثر أعلى بناية وتظل تبحث عن المسجد فتكتشف أنه زاوية صغيرة، في شارع جانبي لا تطل على الشارع.
في سوق التوفيقية صخب للبيع والشراء والمساومة والشجار وتدافع المرور، ويحزنك أن القرآن الكريم يبث من ميكروفون زاوية خفيّة، ولا ينصت إليه أحد، لا يليق بكلام الله هذا التجاهل، أن يكون خارج سياق الإنصات.
في وسط البلد أيضًا، ميدان مصطفى كامل تحديدًا، تجد محلات تخرج سماعات تذيع القرآن الكريم بأصوات خليجية، كأنها تلاوة جوجل، شعور تايواني ثابت، لا إحساس بالمعنى، لا تختلف المقامات في ملاءمتها لآيات النعيم عن آيات العذاب، يتساوى لدى القارئ الآلي الوعيد والبشرى.
لم يحدث أن تأثر أحد بالأذان وإقامة الصلاة وإذاعة القرآن في مكبرات الصوت، أكثر من الذين يواظبون على الصلاة. لم يفكر مسؤول مصري في إلغاء بدعة، تسيء إلى الدين ولأي قيمة إنسانية، اسمها مكبرات الصوت، وإعادة سنة الأذان فوق المآذن بأصوات طبيعية جميلة. ظلت الشعائر على الفطرة حتى سبعينيات القرن العشرين. في قريتنا، كان الشيخ عثمان ذا صوت عذب، يرتل القرآن ترتيلا، ويؤذن للصلوات، من فوق مئذنة، فنسمعه في الغيطان، على بعد نحو ألفي متر، قبل أن تضيق المآذن بالمؤذنين حسَني الصوت، وتتسع لميكروفونات معدنية يتبارى في زرعها، بلا داع، كثير من الذين لا تُعرف مصادر أموالهم.
كان أبي رحمه الله حريصا على صلاة الفجر، لا يحول دون ذلك برد شديد، أو مطر تزل بسببه الأقدام. لا أحد يجرؤ الآن على المطالبة بأن يكون الميكروفون داخل المساجد، أو للأذان فقط؛ حرصا على المرضى والنيام.
من الآثار المستمرة لموجة «الصحوة الإسلامية» فتوى زعمائها بأن يكون للفجر أذانان، أولهما قبل الأذان الطبيعي بساعة، وأن يكون للجمعة أذان واحد، على أن يبدأ الإمام خطبته قائلا: «إن الحمد لله»، وليس كما اعتادوا «الحمد لله رب العالمين»، وألا يجهر الإمام بالبسملة في الصلوات الجهرية.
المفارقة أن الميكروفونات تبدأ العمل قبل أذان الفجر بساعة، وينطلق منها الأذان مرتين، وبين الأذانين يذاع القرآن والتواشيح، كل ذلك لم يفلح في زيادة أعداد المصلين. سألت أبي، فأجاب بأن الذين يصلّون الفجر هم أنفسهم، سواء في الصيف وليالي البرد والمطر، حين تنقطع الكهرباء وتتعطل الميكروفونات.
مَن يجرؤ الآن على المطالبة بأن يكون ميكروفون الجامع للأذان فقط؟ وإلى أن تأتي معجزة بمسؤول شجاع يستعيد الدين من خاطفيه، نسأل الله معجزة تسخط الميكروفونات آلاتٍ تنتج، أو يجعلها عصافير تغرّد، تظلل فضاء البلاد بالشقشقة والزقزقة. يا رب.