لم أتوقع قط خلال مكالمة هاتفية لي مع الفتاة المصرية نيرة طارق أن أسمعها تتحدث اللغة الصينية بتلك الطلاقة التي جعلت من الصعب عليَّ التمييز بين نطقها ونطق الصينيين لهذه اللغة الشرقية الساحرة، فجال في ذهني شريط من الذكريات حين رأيتها لأول مرة عندما كانت طفلة صغيرة تنم عيناها النجلاوتان عن شغف عميق إلى اكتشاف العجائب، وذلك في أول لقاء لي مع أسرتها خلال فترة عملي في مصر.
موضوعات مقترحة
وفي ضوء تأثرها بوالدها الذي يعد من أحد أبرز الخبراء في شؤون الصين وعلاقاتها مع الدول العربية، اختارت نيرة دراسة تخصص اللغة الصينية في جامعة القاهرة دون أي تردد.
وقالت لي بنبرة تفيض بالثقة والسعادة: "لأن اللغة الصينية هي لغة تفتح أمامي عالمًا أوسع".
لقد تأسس معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة عام 2007، ومنذ ذلك الحين شهد المعهد تطورا كبيرا حيث يبلغ الآن عدد المسجلين في برامجه لتعلم اللغة الصينية نحو أربعة آلاف طالب، مقارنة بأقل من ثلاثين طالبا عند تأسيسه.
وقالت لي نيرة إنها كانت تواجه تحديًا كبيرًا في البداية مع التدريب المتكرر والمستمر على نطق الكلمات والعبارات الصينية حتى أنها كانت تشعر مع نهاية اليوم بأنها غير قادرة على "فتح شفتيها" من شدة الإرهاق. لكنها أكدت لي أنها اكتشفت فيما بعد أن سر إتقانها للغة الصينية وتفوقها فيها يكمن في حبها العميق لهذه اللغة وللثقافة الثرية التي تحتضنها بين طياتها".
وبعد ثلاث سنوات من انكبابها على الدراسة والتدريب والمشاركة في دورات تعليمية، أحرزت نيرة تقدمًا ملحوظًا وسريعًا في الترجمة بين لغتين من أصعب لغات العالم، وأصبحت الآن قادرة على فهم ما يقوله الصينيون بسهولة، ومازالت تواصل بذل الجهد في التعلم، كما تشارك في ترجمة كتب صينية في وقت فراغها في مجموعة بيت الحكمة الثقافية.
في سبتمبر 2020، وقعت الحكومتان الصينية والمصرية بروتوكول تعاون لتدريس اللغة الصينية في المدارس المصرية كلغة أجنبية اختيارية ثانية، وهناك الآن 30 جامعة مصرية تتيح تخصص اللغة الصينية، وأكثر من 20 مدرسة متوسطة تتيح مادة اللغة الصينية كمادة اختيارية للدراسة، وهو ما يعد إيذانًا بدخول هذه اللغة إلى المناهج التعليمية الوطنية المصرية بشكل شامل.
وانطلاقا مما سبق، ترى نيرة في الأمر أفاقًا رحبة، حيث قالت إنها تعتزم فتح مركز لتعليم اللغة الصينية، وعلق فو جي مينغ، الأستاذ المخضرم في اللغة العربية بجامعة بكين، على قصة نيرة، قائلا:"إن قصتها تعكس جانبًا من ظاهرة "الشغف بالصين" وإن "الشغف بالصين” ينبع من تزايد وتيرة التبادلات الودية الصينية العربية، ويمهد الطريق إلى تزايد الترابط الشعبي بين الجانبين".
ففي صيف العام الماضي، بدأ عرض 788 قطعة أثرية مصرية نفيسة في ظهور باهر بمعرض كبير عن الحضارة المصرية القديمة، احتضنه متحف شانغهاي بالصين حيث جاء 95 في المائة من هذه الآثار لأول مرة إلى آسيا لرؤيتها من الجماهير الصينية.
فتدفق عشاق الآثار من شتى أنحاء الصين وتسابقوا لحجز التذاكر واصطفوا في طوابير طويلة تحت شمس الصيف الحارقة في انتظار دخول المتحف لمشاهدة هذه الكنوز الفريدة، وهذا يعد واحدا من العديد من الأمثلة التي تعكس كثافة وعمق التفاعلات الثقافية والشعبية بين الصين والعالم العربي.
وفي العام الماضي، شهدت "دائرة أصدقاء الصين ممن لديهم دخول بدون تأشيرة" توسعًا ملحوظًا، حيث زاد عدد دخول وخروج الأجانب للصين بنسبة 82.9 في المائة مقارنة بعام 2023، كما أصبحت الوجهات السياحية التقليدية، مثل مصر والإمارات والمغرب إلخ، تحظى بشعبية متزايدة بين الزائرين الصينيين.
أما عن الكيفية التي ستواصل بها الصين تعميق تفاعلها مع العالم والعمل على الارتقاء بمستوى انفتاحها على الخارج، فمن المتوقع أن نجد توضيحًا رسميًا حول ذلك أثناء الدورتين السنويتين للهيئة التشريعية العليا والهيئة الاستشارية السياسية العليا في الصين، المزمع انعقادهما الأسبوع المقبل.
وبلا شك أن الشاب المصري محمد جهاد سيتابع هذا الحدث السياسي الصيني الكبير عن كثب؛ إذ أنه خبير في الإعلام الموجه إلى الخارج في مجموعة الصين للاتصالات الدولية، ومنذ تخرجه من جامعة الصين للاتصالات وحصوله على شهادة الماجستير في فن الإذاعة وتقديم البرامج، بدأ شق طريقه بحماس في الصين.
وقال لي هذا الشاب المصري الوسيم إن "تصوير وإنتاج مقاطع الفيديو القصيرة جزء من عملي"، فمنذ بداية العام الماضي فقط، نشر جهاد حوالي 60 مقطعا من الفيديوهات القصيرة على تطبيق "دويين" (تيك توك الصيني)، أكبر منصة للتواصل الاجتماعي الآن في الصين، يلعب فيها دور فرعون لتعريف المشاهدين الصينيين بالحضارة المصرية العريقة أو يقوم بالدبلجة الصينية، لينل نحو ثلاثة ملايين "إعجاب" من قبل مختلف أطياف الصينيين.
في حديثه معي حول أهمية اللغة الصينية، قال إنها تعتبر من أصعب لغات العالم، لكنها جميلة من حيث الصوت والشكل والمعنى، وهي "لغة المستقبل". وأشار إلى أن "هناك عددا متزايدا من العرب يدركون أنه بمقدورهم اكتشاف المزيد من الفرص لإقامة تعاون مستدام مع الصين إذا أتقنوا اللغة الصينية".
بالفعل يمضى جهاد قدما في تحقيق حسن الاستفادة من دراسته للغة الصينية. ففي عام 2024 الذي صادف الذكرى الـ10 لإقامة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين ومصر، انهمك بشدة في ترتيب وتنسيق مختلف الفعاليات المتعلقة بالتبادلات بين البلدين وبين الصين والبلدان العربية الأخرى.
وقال في ختام حديثه "إنها "بداية رائعة جدا، وأعتقد أن التواصل والتفاعل بين الصين ومصر بشكل خاص، وبين الصين والعالم العربي بشكل عام، سيزداد كما وكيفا في عام 2025".
الكاتب: لي تنغ
محلل سياسي وصحفي بوكالة أنباء الصين "شينخوا"
درس وعمل في مصر حوالي 10 سنوات