الذى درس علم النفس يعرف جيداً أن ما جرى فى غزة أكبر من «متلازمة ستوكهولم» فهو نوع جديد من المتلازمات اسمها «متلازمة غزة» إن صح القول.
دعونا نعرف ما هى متلازمة ستوكهولم أولا.
متلازمة ستوكهولم، هى استجابة نفسية يبدأ فيها الرهينة أو المخطوف أو الضحية بالتعاطف مع خاطفيه، وكذلك مع مطالبهم، جاء اسم هذه المتلازمة من عملية سطو فاشلة على بنك «سفيرجس كريدت بنك» فى ستوكهولم بالسويد فى أغسطس 1973، حين تم احتجاز 4 موظفين كرهائن فى قبو البنك لمدة 6 أيام.
وخلال هذه الفترة نشأت رابطة تبدو متناقضة بين الخاطفين والرهائن، وذكرت إحدى الرهائن -خلال مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء السويدى أولوف بالمه- أنها تثق تماما بخاطفيها، لكنها تخشى أن تموت فى اعتداء الشرطة على المبنى.
تم إطلاق التسمية من قبل نيلس بيجرو عالم الجريمة فى ستوكهولم، الذى استخدم المصطلح لشرح رد الفعل غير المتوقع للرهائن، فعلى الرغم من احتجازهم ضد إرادتهم فى وضع يهدد حياتهم، فإن هؤلاء الأفراد أقاموا علاقات إيجابية مع خاطفيهم، حتى إنهم ساعدوهم فى دفع أتعاب محاميهم بعد القبض عليهم!!
يعتقد علماء النفس الذين درسوا المتلازمة أن الرابطة، تنشأ فى البداية عندما يهدد الخاطف حياة الرهينة ثم يختار عدم قتلها بكامل إرادته ويحسن معاملتها، فيتم تحول ارتياح الرهينة عند انتهاء التهديد بالقتل إلى مشاعر الامتنان تجاه الخاطف لمنحه حياته أو حياتها.
كما يمكن أن تنمو الرابطة بين الضحية والخاطف، وقد يؤدى ذلك إلى معاملة طيبة وأضرار أقل، لأنها قد تخلق أيضا علاقة إيجابية مع ضحاياهم، والأغرب أنه قد تكون لدى الشخص المخطوف مشاعر محيرة تجاه الخاطف، بما فى ذلك:
ـ الحب
ـ التعاطف
ـ الرغبة فى حمايته.
أمام متلازمة غزة، في ظل الحرب على غزة، تابع العالم لقطات إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والإسرائيليات، وهم يودعون الشباب الفلسطينيين بكل حب ومودة، ومشاعر وأحاسيس كبيرة، جعلت الناس يتعجبون من هذا الموقف.. فكيف بشخص تم احتجازه كرهينة، ثم يودع خاطفه بهذه الحميمية!
ثم كيف بأسيرة إسرائيلية تنشر رسالة وداع، إلى العناصر الذين رافقوها طول فترة الاحتجاز، وتعرب عن شكرها لهم، وتثني على حسن معاملتهم معها ومع ابنتها!
على الهواء مباشرة، جاءت قبلة الأسير الإسرائيلى على منصة التسليم لأحد عناصر المقاومة، بالشكل العفوى الذى شاهدناه، ولم يكن مضطرًا إلى فعلها، مما يوضح أكثر ويشرح متلازمة ستوكهولم جديدة من نوعها فى إبداء المشاعر الإيجابية تجاه الخاطف، وفى الوقت ذاته، فإنها تُظهر حجم العلاقة التى كانت طيلة فترة الأسر، وطبيعة الرعاية والاهتمام بين الآسر والأسير.
متلازمة غزة: هى أكبر من ما يمكن تفسيرها علميا، وستكون محط دراسات علماء النفس لسنوات طويلة، لأن الخاطف والمخطوف تساويا فى الظروف، والمخطوف رأى أن الخاطف حريص على حياته أكثر من نفسه وأكثر من حكومته، (خصوصاً عند القصف العنيف)، فتولدت عند المخطوف مشاعر الود والحب والعرفان والتعاطف والامتنان، لهذا فإن قبلة الإسرائيلى لعنصر كتائب القسام ما هى إلا امتنان له لمعاملته بطريقة إنسانية وإعطائه فرصة ثانية للحياة وألا يُقتل فى القصف، ولهذا كان الإسرائيلى محبا ومتعاطفا وممتنا للغزاوى.
قبلة الإسرائيلى ليست الحالة الأولى، بل كذلك نظرات الأسيرة الإسرائيلية الهائمة بعشق أحد عناصر القسام التى تم إطلاق سراحها سابقاً ، حيث مُنعت أن تتحدث عن مشاعرها رسمياً .
ما يحدث اليوم هو نتيجة متوقعة لأن المشاعر ليست امتنانا فقط، بل تذهب إلى العشق والحب والود لأن الخاطف والمخطوف عانيا معا أهوال الحرب وأصبحت بينهما صلة،، وما حدث سوف يتم تدريسه فى كليات علم النفس لأنها إحدى نتائج متلازمة غزة الغنية بالتحليلات والنتائج.
متلازمة ستوكهولم (متلازمة غزة حاليا) ليست اضطرابا، بل هى علامة من علامات الصحة النفسية والقدرة على التعايش بين الشعوب
فمتلازمة غزة هى شيء أكثر تطورا من متلازمة ستوكهولم، لأن الخاطف والمخطوف تعرضا لنفس الخطر من حكومة كان يجب على الأقل أن تحمى مواطنيها.. وبالتالى ، أصبحت العلاقة وثيقة بين الإسرائيليين المختطفين والفلسطينيين فى غزة.
وها نحن بين متلازمتين نقيضتين فأيهما سيحكم؟ إحداهما «متلازمة نتانياهو» التى تدعو إلى التوحش والقتل، والأخرى «متلازمة غزة» التى تدعو إلى الحياة والتعايش.
وبقبلة بين الأسير وآسره يُسدل الستار على المرحلة الأولى من الصفقة، وتنتهى مرحلة من مراحل الهدنة، ليعود النقاش من جديد حول المرحلة الثانية من الصفقة، وتدور الآراء بين مؤيد ومعارض وبين من يريد العودة إلى الحرب ومن يريد استمرار وقفها وفق رؤية إعادة الإعمار والبناء وتأهيل كل ما دمرته آلة الحرب.