فى الظاهر، تبدو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، «يو إس إيد»، منظمة إنسانية تنشر التنمية والديمقراطية حول العالم، أما فى الواقع، فهى الذراع الطويلة لواشنطن، تتسلل حيثما تحتاج المصالح الأمريكية إلى دفعة صغيرة أو انقلاب ناعم.
جاء دونالد ترامب من بعيد، من خارج نخبة واشنطن، كأنه جورج واشنطن، الرئيس الأمريكى الأول، ويبالغ بعض محبيه ويقولون إنه يتفوق على واشنطن نفسه!
يتعامل ترامب مع السياسة كما يتعامل مع العقارات: كل شيء قابل للهدم وإعادة البناء، يتخذ قرارات مثيرة، فقد أوقف عمل الوكالة بقرار مدته 90 يوما، وجمد التمويلات، وأعاد توجيه برامجها، كما لو أنه يجرى لها عملية قلب مفتوح دون تخدير.
ربما أراد تنظيف إرث “نخبة واشنطن”، أو ربما كان يعيد ترتيب الأوراق وفقًا لتصوره عن “أمريكا العظيمة مرة أخرى”، وهكذا، وجدت الوكالة نفسها فجأة، وهى التى لطالما أجرت “عمليات دقيقة” فى السياسة الدولية، تحت مشرط رئيس لا يؤمن بالجراحة، بل يفضل استخدام الفأس.
تأسست الوكالة عام 1961، فى عهد الرئيس المغتال جون كينيدي، واتخذت هيئة المؤسسة الخيرية، لكنها فى الحقيقة عملت كجراح سياسي، يفتح صدر الدول تحت شعار «المساعدات»، ثم يتركها مصابة بنزيف داخلى مميت.
حكايات الحرب الباردة بين السوفيت والغرب لا تنتهى نهاية سعيدة مع «يو إس إيد»، تناولتها الروايات والسينما والكتب السرية والممنوعة، وروتها الفوضى التى ضربت جدران الدول الشرقية، لم تكن تلك الحكايات مجرد خيال، بل وقائع موثقة تثبت أن الوكالة كانت فى صميم اللعبة الكبرى، تزرع بذور التغيير حيثما اقتضت الحاجة، حتى لو كان الثمن الفوضى والخراب.
فى كوبا، أطلقت «يو إس إيد» مشروع «زونى زونيو» بين عامى 2009 و2014، وهو تطبيق تواصل اجتماعى سرى صُمم لجذب الشباب الكوبيين وتحفيزهم على معارضة الحكومة، لم يكن المشروع عبقريًا بما يكفى ليظل مخفيا، فسرعان ما انكشف، ووجدت الوكالة نفسها فى موقف محرج أمام العالم، واضطرت واشنطن لتبرير عبثها الرقمى فى كوبا.
أما فى فنزويلا، فقد زرعت نفسها هناك منذ عام 2002، حيث ضخت ملايين الدولارات لدعم المعارضة ضد الرئيس الراحل هوجو تشافيز، ثم ضد خليفته نيكولاس مادورو، كان العنوان الرسمى هو الديمقراطية، لكنها لم تكن سوى غطاء هش يخفى وراءه المصالح النفطية الأمريكية.
سقط الاتحاد السوفيتى فى حرب باردة غير متكافئة، وهذا لم يكن كافيًا. فالتهام روسيا الاتحادية بمساحتها الشاسعة ومواردها النادرة وسكانها المختلفين دينيا وعرقيا، بدا كوجبة ساخنة تستحق الاحتكاك والاقتراب الدامي. وهكذا، كانت “يو إس إيد” هناك، فى سهرة على الحدود، حيث أوكرانيا.
وخلال ما يسمى “الثورة البرتقالية” (2004-2005)، قامت الوكالة بتمويل منظمات إعلامية ومجتمعية، وساعدت فى توجيه الاحتجاجات ضد المرشح الأوكرانى الموالى لروسيا، وقع التغيير بنكهة أمريكية، وتحركت معه الجغرافيا السياسية، وجدت روسيا نفسها تحت وطأة حرب باردة جديدة، تغيَّر الرئيس الموالى لموسكو وجاء آخر يعاديها، ليجعل بلاده رأس حربة فى مشروع أوروبي- أمريكى لمحاصرة روسيا، وانتهى الأمر بحرب بين روسيا وأوكرانيا لا تزال رحاها تدور إلى اليوم.
أما فى صربيا، فقد فتحت أبواب الجحيم عام 2000. قدمت الوكالة التمويل والتدريب لحركة “أوتبور”، التى لعبت دورا رئيسيا فى الإطاحة بسلوبودان ميلوسيفيتش. وكالعادة، لم يكن ظهور الوكالة علنيا، بل تسللت بين الشقوق، واختبأت تحت جلد الصرب، حتى تمكنت من تحقيق هدفها، وما النتيجة؟ كانت درسا عمليا فى “التغيير الناعم”، وقالوا يمكن تعميمه فى أماكن أخرى.
أما خلال لعبة “الربيع العربي” بين 2011 و2013، فقد لعبت “يو إس إيد” دورا خفيا فى دعم منظمات إعلامية وجمعيات مختلفة فى مصر وتونس، وسوريا، والعراق، ولبنان، كان الغطاء الرسمى هو الديمقراطية، لكن الدولارات كانت تتساقط كالأمطار، تشترى الشعارات وتصوغ الهتافات.
فهل كان قرار ترامب تصحيحًا لخطأ خطير، أم مجرد إعادة تدوير للعبة القديمة؟ كما هى الحال دائمًا، الإجابة تعتمد على من يروي القصة.