أثارت خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الرامية إلى تهجير سكان قطاع غزة، العديد من الانتقادات الدولية الواسعة، مع ترحيب إسرائيلى بطبيعة الحال، وهذه الانتقادات مبناها أن ممارسات الترحيل والنقل القسرى للسكان المدنيين فى حالات الاحتلال محظورة صراحة، بموجب نص المادة 49 (1)، من اتفاقية جنيف الرابعة، بشأن حماية المدنيين فى زمن الحرب لعام 1949، وبيان ذلك، أن الحظر المفروض على النقل القسرى للسكان المدنيين فى الأراضى المحتلة، يعد حظرًا من طبيعة عرفية، أى قاعدة من قواعد القانون الدولى الإنسانى العرفى، التى تنطبق على النزاعات المسلحة الدولية، وغير ذات الصفة الدولية على حد سواء.
موضوعات مقترحة
وقد نصت على هذا الحظر فى فترة مبكرة مدونة ليبر لعام 1863، التى تمثل أول تدوين لقوانين وأعراف الحرب، والتى كانت مقدمة لاتفاقيات لاهاى (1899 - 1907)، وأيًا ما كان الأمر، فالمادة 49 (1) تنص على أن “يحظر النقل الجبرى الجماعى، أو الفردى للأشخاص المحميين أو ترحيلهم من الأراضى المحتلة، إلى أراضى دولة الاحتلال أو إلى أراضى أى دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيًا كانت دواعيه”، وهذا النص يشير- بما لا يدع مجالًا لأدنى شك - إلى أن الحظر المفروض على نقل وترحيل السكان جبرًا هو حظر مطلق، بينما عمليات النقل الطوعى مسموح بها ضمنًا، إذ قد ترغب أقلية عرقية أو دينية تعانى من التمييز أو الاضطهاد مغادرة البلاد، وتكون مغادرتها فى هذه الحالة مشروعة، طالما كانت تنم عن رغبتها.
ويشير النص كذلك إلى أن عمليات النقل والترحيل القسرى لا تقتصر فقط على استخدام القوة المادية، بل تمتد إلى أى فعل قد يشكل فى حد ذاته جبرًا أو إكراهًا، مثل: التهديد باستعمال القوة أو الإكراه، كذلك الناجم عن الخوف من العنف أو القهر أو الاحتجاز أو القمع النفسى، أو إساءة استخدام السلطة ضد الأشخاص المحميين. كما أن ممارسات الترحيل والنقل القسرى تظل غير مشروعة، وذلك بغض النظر عن دوافعها ومبرراتها، وأيًا كانت وجهة الترحيل أو الغرض منه، إذ تستهدف المادة المذكورة أعلاه، فرض الحظر أيضًا على النزوح الداخلى التعسفى داخل الأراضى المحتلة، ولا تشترط أن يكون الترحيل أو النقل غرضه إلحاق السكان المدنيين للعمل بالسخرة حتى يكون غير مشروع.
فقد لاحظت غرفة الاستئناف فى المحكمة الجنائية الدولية، ليوغوسلافيا السابقة، فى قضية كرنوييلاتش، “أن الطابع القسرى للاستئصال والإبعاد القسرى لسكان إقليم، هو الذى يؤدى إلى ثبوت المسئولية الجنائية للجانى، وليس الوجهة التى يُرسل إليها هؤلاء السكان”، كما أشارت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أثناء تعليقها على المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة إلى أن المادة 6 (ب)، (ج) من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية، بنورمبرج وأحكامها تدعم الرأى القائل، بأن ترحيل سكان الأراضى المحتلة يتعارض مع قوانين وأعراف الحرب، ولم تتعامل محكمة نورمبرج مع ممارسات الترحيل فحسب، بل تعاملت أيضًا مع الممارسة العامة، المتعلقة بإضفاء الطابع الألمانى أو ألمنة الأراضى المحتلة.
فقد أشارت لائحة اتهام المحكمة، إلى أن “المدعى عليهم قد سعوا بشكل منهجى ومخطط فى بعض الأراضى المحتلة، التى ضمتها ألمانيا، إلى استيعاب هذه الأراضى سياسيًا، وثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا فى التاريخ الألمانى، كما سعوا إلى محو الطابع الوطنى السابق لهذه الأراضي. وبموجب هذه الخطط، قام المدعى عليهم بترحيل السكان، الذين كانوا فى الغالب من غير الألمان بالقوة واستبدالهم بآلاف المستعمرين الألمان”. وبناءً عليه، قضت المحكمة بأن ترحيل السكان المدنيين للعمل بالسخرة أو لأى أغراض أخرى، هو جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، وأن إضفاء الطابع الألمانى على الأراضى المحتلة، يعتبر كذلك جريمة ضد الإنسانية.
وحتى مع التسليم بأن لكل من مفهومى “الترحيل”، و«النقل» معنيين مختلفين، فإن التمييز بينهما لا علاقة له بإدانة مثل هذه الممارسات فى القانون الدولى الإنسانى، ذلك أن المادة 49(1) تشير إلى أن كليهما محظور بموجب القانون الدولى الإنسانى، وهذا هو التفسير الذى اعتمدته اللجنة الدولية للصليب الأحمر بوضوح، عندما ذهبت إلى أن المادة (49) تحظر جميع عمليات النقل الجبرى، وكذلك ترحيل الأشخاص المحميين من الأراضى المحتلة، ناهيك عن أن هذه المادة تحظر أى نقل قسرى أو ترحيل للمدنيين من الأراضى المحتلة، بغض النظر عن الطابع الجماعى أو الفردى لعمليات النقل أو الترحيل.
ولا يخفى أن هذه المسألة، قد نُوقشت بالتفصيل فى سياق عمليات الترحيل الفردية، التى قامت بها سلطات الاحتلال الإسرائيلى للفلسطينيين من الضفة الغربية، وقطاع غزة منذ بدء احتلال الأراضى الفلسطينية، والتى ادعت فيها سلطة الاحتلال بأن ترحيلهم كان لأسباب أمنية، بل وأكدت المحكمة العليا الإسرائيلية باستمرار على مشروعية عمليات الترحيل، وفسرت المادة (49)، على أنها تحظر فقط عمليات الترحيل الجماعى، على غرار تلك التى نُفذت فى الحرب العالمية الثانية، ولا تحظر عمليات الترحيل الفردية لأسباب أو لدواع أمنية، ولكن هذا التفسير التقليدى الذى قالت به المحكمة العليا للمادة 49 (1) تعرض لانتقادات واسعة النطاق، ذلك أن لغة المادة (49) “واضحة وقاطعة”، إذ يتعين تفسير الحظر الذى تفرضه على أنه حظر مطلق، سواء للترحيل الجماعى أم الفردى، فالغرض من المادة (49) هو ضمان أن أى ترحيل للأشخاص المحميين من الأراضى المحتلة، سيكون إجراءً غير مشروع.
أضف إلى ذلك، أن الإخلاء المنصوص عليه فى المادة 49(2)، والذى يشير إليه البعض، بوصفه استثناءً من القاعدة الأساسية الواردة فى المادة 49(1)، هو مفهوم مختلف تمامًا عن مفهوم “الترحيل والنقل الجبرى”. وآية ذلك، أن الإخلاء هو إجراء سلبى مؤقت بطبيعته، تتخذه سلطة الاحتلال لصالح الأشخاص المحميين أنفسهم، فالإخلاء يجيز لدولة أو سلطة الاحتلال إخلاء منطقة معينة إخلاءً كليًا أو جزئيًا، “إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية”، على أن تكون عمليات الإخلاء هذه مؤقتة، حيث يتعين إعادة الأشخاص المحميين إلى منازلهم، بعد انتهاء العمليات العدائية أو العسكرية، ومن أجل كفالة الحماية اللازمة لصالح السكان المعنيين، نصت المادة (49) على عدد من الضمانات فيما يتعلق بالإخلاء، من بينها أن الأمر بالإخلاء لا يجوز إلا فى حالتين محددتين وهما: سلامة وأمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية أو ملحة.
فإذا كانت المنطقة معرضة للخطر نتيجة لعمليات عسكرية، أو معرضة لقصف مكثف، فإن القوة المحتلة لها الحق، مع مراعاة أحكام المادة (5)، فى إخلائها جزئيًا أو كليًا، ووضع سكانها فى أماكن مناسبة للإقامة، بشرط أن تهيأ لهم ظروف مرضية، عند الانتقالات تتعلق بالسلامة وبالشروط الصحية والأمن والتغذية، مع عدم تفريق أو فصل أفراد الأسرة الواحدة عن بعضهم البعض، وينطبق الأمر نفسه عندما يعوق وجود أشخاص محميين فى المنطقة العمليات العسكرية.
وبمفهوم المخالفة، إذا لم يكن الإخلاء ضروريًا، يصبح غير مشروع. كذلك، فإن الإخلاء - كما تشير المادة - يحب أن يكون كقاعدة عامة إلى مراكز الاستقبال داخل الأراضى المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية، فإذا كان هناك عذر مادى، حال دون إجلاء السكان داخل الأراضى المحتلة، يجوز لدولة الاحتلال إجلاءهم إلى أماكن خارج الأراضى المحتلة، غير أنه يشترط فى تلك الأماكن أو الدول، التى سيتم إجلاء الأشخاص المحميين إليها، أن تكون طرفًا فى اتفاقية جنيف الرابعة، ومن ناحية أخرى، لا يجوز إجلاء الأشخاص المحميين إلى دولة، يُخشى فيها تعرضهم للاضطهاد بسبب آرائهم السياسية أو عقائدهم الدينية. هذا إلى جانب أنه يتعين على الأطراف أن تنفذ عمليات الإخلاء بطريقة إنسانية. وتهدف هذه القيود مجتمعة إلى توفير الضمانات لحماية مصالح السكان المتضررين ومنع النزوح التعسفى.
وهذا التمييز والاختلاف الواضح بين “الترحيل والنقل” من ناحية، و”الإخلاء” من ناحية أخرى، بوصف “الترحيل والنقل” أمر محظور بصورة مطلقة، و”الإخلاء” أمر مسموح به فى ظل توافر ضمانات معينة على نحو ما ذكرنا، جعل النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، يعتبر “إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة، أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها”، جريمة حرب بموجب نص المادة 8(2)(ب)(8)، دون أن يشير إلى أى استثناء محتمل، يتعلق بوجود أسباب عسكرية قهرية، كما يعد النقل والترحيل القسرى للسكان المحميين فى الأراضى المحتلة من قبيل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف “المادة 147”، بما يعنى أنه يقع على عاتق الدول الأطراف المعنية مقاضاة المسئولين عنها جنائيًا.