داعبت الكثير من الدول العربية الآمال المشروعة مع عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض تحت رايات السلام، وتأملت دول المنطقة جميعها في تسوية سلمية، وتطلعت دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، إلى جني مكاسب اقتصادية من رئاسة ترامب. بيد أن الدول العربية أدركت بقسوة -مرة أخرى- أن واشنطن لا يمكن الاعتماد عليها بصورة مفرطة.
وسرعان ما تبدلت الصورة مع عاصفة ترامب الخاصة بتهجير الفلسطينيين من غزة، والتي قوبلت برفض جماعي، وتستعد الدول العربية في قمتها الطارئة لتقديم رد موحد و"خطة بديلة" لإعادة الإعمار، وسيناريو "اليوم التالي" في غزة.
وأحسب أن القمة سوف تدشن "صفحة جديدة" في العلاقة المضطربة ما بين العالم العربي والإدارة الأمريكية. لقد تغيرت "حسابات الدول العربية" منذ رحيل ترامب وعودته ثانية، كما أن "أفكاره الشاطحة" كثيرًا وخارج الصندوق باتت أكبر من قدرتهم على تحملها، وإن كان عليهم محاولة "مواجهته واحتوائه"، والبحث عن "صفقات مربحة" لكلا الجانبين. ويقول بعض الخبراء إنها "مهمة مستحيلة"، إلا أن واقع الحال يقول إن "الصف العربي" في تضامنه يمكنه أن يفعل أمورًا مبهرة.
ويذهب بعض الخبراء والكتاب الغربيين إلى أنه "من المستحيل على الدول العربية أن تتعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة بشأن غزة وفلسطين، بطريقة أو بأخرى، دون التراجع عن شيء كبير". وترى نسرين مالك في مقال بصحيفة الجارديان تحت عنوان "خطة ترامب لغزة تترك الدول العربية أمام خيار مستحيل" أن هذه المواقف تُظهر مدى الصعوبة التي تواجه ترامب في الحصول على موافقة "حتى أقرب حلفائه"، لكنها ترى في المقابل عدم وجود إجماع عربي حول خطة ترامب بشأن غزة، أو كيفية الرد عليها، فهذه الدول العربية، برأي الكاتبة، تشكل كتلة سياسية، ولكن لها مصالح متباينة، كما أنها "ستواجه صعوبة في الرد على الخطة، دون وقوعها في صدام مع ترامب، أو الجمهور العربي، أو الرأي العام العالمي بشأن عدم شرعية الخطة"، على حد تعبيرها. وتقول الكاتبة إن الحاجة أصبحت ملحة الآن للتوصل إلى إستراتيجية مشتركة "نيابة عن الدول العربية"، لكنها تؤكد صعوبة المهمة، التي تتلخص في "إرضاء ترامب، ورفض خطته بشأن غزة"، وهما، برأيها، أمران لا يمكن التوفيق بينهما.
إلا أن الواقع والتطورات المتلاحقة حتى الآن أثبتت تضامنًا عربيًا هائلًا، والتفافًا شعبيًا كبيرًا يدعم الموقف الرسمي الرافض لخطة ترامب، ولقد تحركت العواصم العربية بسرعة، وجرت الكثير من المشاورات، وكثفت جهودها الدبلوماسية لتوحيد موقف دولي رافض لخطة تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
ولقد شرحت الكثير من العواصم العربية الخيارات الصعبة التي تواجه الدول العربية في التعامل مع خطة ترامب، خاصة مصر والأردن، وأكدت مصر والأردن أنهما لن يقبلا الخطة لأنهما سيكونان الأكثر تضررًا من أي حملة إعادة توطين للفلسطينيين، وذلك بسبب قربهما الجغرافي. وأبدت دول الخليج دعمها للقاهرة وعمان في مواجهة تهديدات واشنطن بقطع المساعدات الأمريكية عنهما.
وبالرغم من أن مصر والأردن من كبار المستفيدين من المساعدات الخارجية الأمريكية، وتخوف بعض الخبراء من أن فقدان المساعدات الأمريكية لن يضعف اقتصادات الأردن ومصر، بل سيضعف قدرتهما على تحقيق الاستقرار السياسي في المنطقة، إلا أن الأمر يقتضي التنويه بأن هذه الدول لديها خيارات أخرى، وعملت على توسيع خياراتها بالتعاون مع دول أوروبية عدة والصين وروسيا والهند واليابان.
وفي الوقت نفسه في المقابل، فإن الموافقة على خطة ترامب ستحول هذه الدول إلى "أطراف في صراع أوسع نطاقاً بين إسرائيل وفلسطين"، وعلى حد تعبير الكاتبة نسرين مالك: "بدلًا من أن يكون إخراج الفلسطينيين من غزة نهاية لشيء ما، فإنه سيكون بداية لشيء آخر"، إذ إنه "ليس من الآمن الافتراض أن التهجير الجماعي للفلسطينيين لن يؤدي إلى انفجار شيء".
وتجدر ملاحظة أنه منذ الزيارة الأخيرة لترامب إلى السعودية، تغيرت الحسابات الإستراتيجية للدول العربية ولدول الخليج وتوقعاتها من الولايات المتحدة بشكل كبير. وفي حين أنها عملت بالفعل بشكل جيد مع ترامب من قبل، هناك أيضًا واقعية حذرة في الرياض وأبو ظبي والدوحة. فهم يتطلعون لرئاسة ترامب التي يمكن أن تفيدهم، ولكنها قد تضرهم أيضًا.
وهذا يتضح في ثلاثة مجالات: العلاقة مع إسرائيل، العلاقة مع إيران، والاقتصاد حيث لم تعد المصالح متطابقة. لذلك ترى دول المنطقة ودول الخليج عودة ترامب بتفاؤل حذر. فمن ناحية، تأمل أن يجلب ديناميكية جديدة لحل النزاعات الإقليمية لا أن يفجرها بأفكار غير عملية، وتتوقع الدول العربية تعاونًا اقتصاديًا وأمنيًا وثيقًا.
ومن ناحية أخرى، تخشى دول الخليج من عدم قدرتها على التنبؤ بخطواته، مما قد يؤدي إلى التصعيد - وهو سيناريو مرعب لخطط التنويع الطموحة التي يتبناها قادة دول الخليج.
وفي هذا الصدد أشارت الكاتبة والمحللة الفرنسية أليكساندرا شوارتزبرود إلى أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يملك القدرة على لعب دور محوري في تهدئة الأوضاع المتوترة في الشرق الأوسط.
وأكدت شوارتزبرود في حديث لقناة "Public Sénat" الفرنسية أن بن سلمان هو الشخصية الوحيدة التي يمكنها الضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال استخدام ورقة العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب كوسيلة لتحقيق السلام.
وأشارت إلى أن هذه الخطوة يمكن أن تكون جزءًا من خطة "حل الدولتين"، التي تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967. وأضافت أن السعودية، بوصفها قوة نفطية كبرى، تمتلك الأدوات اللازمة للضغط على واشنطن وتل أبيب، مبرزة أن "السعودية لديها القدرة على أن تقول لنتنياهو وترامب: كفى هذا الهراء، فلنتحدث بجدية عن إقامة دولة فلسطينية".
ويبقى أن الدول العربية، ومن خلال أوراقها المتعددة، يمكنها أن تفاوض من موقف قوة، فهي تملك ورقة العلاقة القوية مع الصين، فقد زادت الأهمية الاقتصادية للصين في الدول العربية والخليج. فقد حلت الصين منذ فترة طويلة محل الولايات المتحدة باعتبارها الشريك التجاري الأكثر أهمية، وهي تعمل الآن أيضًا كشبكة دبلوماسية، كما يتضح من دورها في الوساطة في التقارب بين إيران والسعودية.
وعلى العكس من فترة ولايته الأولى، فقد يكون موقف ترامب المتشدد تجاه الصين إشكاليًا بالنسبة لدول الخليج، وورقة لها ثمن هائل إذا ما أرادت واشنطن الحفاظ على علاقاتها التاريخية، وإذا ما أرادت أن تطور علاقات الاستثمار والصفقات الهائلة مع دول الخليج، والدول العربية بعيدًا عن الصين.
وأغلب الظن أن واشنطن تحتاج لتعاون دول المنطقة في تأمين إمدادات طاقة مستقرة وبأسعار مناسبة، كما أن الدور المصري في الحفاظ على الأمن والاستقرار بالمنطقة "دور حيوي"، ولا يمكن تعويضه بسهولة أو بدون تكلفة باهظة، كما أن الدول العربية وفي مقدمتها مصر تمتلك وترعى أهم الممرات المائية لحركة التجارة والنفط والغاز، وتقوم هذه الدول بمحاربة الإرهاب، وتساهم في منع تدفق طوفان الهجرة لأوروبا وبقية العالم.
وأحسب أن القمة العربية سوف ترسل عدة رسائل مهمة للغاية: العرب بقيادة مصر ودول الخليج لديهم الرغبة والقدرة على إعادة إعمار غزة، وثمة إجماع عربي على رفض تهجير الفلسطينيين، وإجماع عربي ودولي على حل الدولتين بوصفه "الحل العادل" للصراع العربي الإسرائيلي، ولا بد من قيام الدولة الفلسطينية. ولعل الرسالة الأخيرة تتعلق بضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقات العربية الأمريكية، وضرورة أن تأخذ في الاعتبار أن الزمن تغير، وأن الشعوب العربية لها مصالح ومخاوف، وأن الدول العربية تملك أوراقًا كثيرة وبدائل عدة، وأن في عالم المصالح "كل شيء له ثمن".. ولكن يبقى أن الأرض العربية ليست مطروحة للعرض ولا تقدر بثمن.