لا ترى الشرقَ يرفعُ الرأسَ بعدي

24-2-2025 | 15:23

شدت كوكب الشرق برائعة شاعر النيل الكبير الراحل حافظ إبراهيم "مصر تتحدث عن نفسها"، وألحان الموسيقار رياض السنباطي، أول مرة في ديسمبر من عام 1951 بسينما راديو، لتعيد غناءها مرة أخرى بعد قيام ثورة يوليو وبعد عودة أم كلثوم من رحلة علاج بالخارج، لتغنيها مجددًا في أول خميس من ديسمبر على مسرح الجلاء عام 1954، وعلى الرغم من مرور سبعة عقودٍ على أجمل ما قِيل شعرًا وغناءً من وصف لأم الدنيا، فإن تلك الكلمات، وذلك الأداء لم يزالا باقيين إلى وقتنا هذا، حيث لا نستدعيها، وإنما تتردد بجنبات الروح شاهدة بكل معنى فيها على كل عصر.

ولعل ما تشهده المنطقة الآن وقبل ذلك، لهو أبلغ دليل على مناسبة تلك الملحمة للأحداث المتوالية، التي وقفت فيها مصر موقف الحضارة النافذة في أعماق التاريخ، وموقف الأسد الجسور الذي ظل حارسًا أمينًا وقويًا على عرينه، بل وعرين الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، ليدرك كل إنسان في تلك البقعة وفي العالم أجمع كم كان شاعر النيل مُحقًا إلى أبعد حد، حين كتب ما أدته كوكب الشرق ببراعة فائقة لا تُضاهى "أنا إن قَدَّرَ الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي"، وبالطبع تعبير "الممات" يُشير إلى الخفوت، إذ لا يليق أن يخفت النبراس الذي يضيء الطريق، ولا يليق أن تواجه الرياح دون عمود الخيمة، الذي يُبقيها وتدًا في وجه العواصف.

والواقع أننا إذا طالعنا ما مر من أحداث بمصر والمنطقة منذ العام 2011 وحتى وقتنا هذا، أي منذ ظهرت المؤامرات على السطح، ولم يعد خافيًا تطلعات المستعمر القديم الجديد في السيطرة على مقدرات الشرق ومن خلال بوابته الكبرى، فعمد إلى إحاطتها من كل جانب، بالإرهاب مرة والإلهاء في مواجهة الأزمات الاقتصادية مرة أخرى، وبالحروب الدائرة في محيطها، واختلاق الأزمات المتتالية والمختلفة، ورغم كل ذلك أثبتت مصر باليقين الذي يقطع أي شك رسوخها وصمودها وقوتها واعتدادها بماضيها التليد قولًا وعملًا، فكانت دولة الشعب الأبي الذي يدرك تمامًا قيمتها، ودولة الجيش القوي الذي يؤمِّنُ وجودها، ودولة المؤسسات النابهة، التي احتاطت وقاومت وصدت أعتى الرياح، وتحملت مصر مسئولية كبيرة في التصدي للأزمات الإقليمية، في السودان وليبيا وسوريا واليمن، وقبل وبعد ذلك قضية العرب المركزية والرئيسية، القضية الفلسطينية، التي اكتسبت أبعادًا جديدة بعد حرب غاشمة ودنيئة من قبل الكيان المحتل الذي اتضح تمامًا أنه الشوكة التي أراد الغرب غرسها في ظهر الشرق منذ أكثر من سبعين عامًا، فكان مُحتلًا باغتصاب الأرض ومحتلًا بالوكالة لصالح أمريكا عبر إداراتها المختلفة، وصولًا إلى الإدارة الحالية التي ظنت أنه بعد تخريب الاحتلال لقطاع غزة وتدمير المنازل والبنى التحتية وقتل عشرات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وابتلاع القدس والضفة الغربية، أن الوقت قد حان لتصفية القضية الفلسطينية، فلم يتوانَ المسؤولون الأمريكيون عن ترديد نغمة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء في مصر وإلى الأردن وبعض الدول العربية الأخرى، وهي النغمة التي قلت عنها في مقال سابق أنها ترجمة لاستراتيجية تدويل الوهم، بحيث يبقى هذا الوهم هو الطرح البديل للفكرة الأصيلة وهي الحق التاريخي للفلسطينيين في وطنهم، وأنه لا سلام بالمنطقة دون السير قدمًا في اتجاه إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي اعترفت بها دول غربية ودول أمريكا اللاتينية، بعد كشف زيف المحتل ونسف رواية المظلومية التي يدعيها طوال هذه العقود.

هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها المنطقة العربية والشرق الأوسط، واتضاح المخطط الخبيث، أعاد إلى الأذهان الدور المحوري لمصر التي وقفت بالمرصاد لهذا المخطط وأفشلته في مكمنه، ولم تُفلح ترديدات ترامب وتصفيق نتنياهو في فرض ما اعتقداه أمرًا واقعًا، بتهجير أبناء الشعب الفلسطيني، ثم خلق الذرائع لتمرير هذه الفكرة، لكن التحرك المصري المحسوب والمدروس والشجاع والحكيم منذ بداية الأزمة، واتخاذ مسارات سياسية ذات ثقل أولها المسار الإنساني والعمل بشتى الطرق على إنفاذ المساعدات الإنسانية والغذاء لأبناء غزة، ثم إدخال المعدات الثقيلة لإزالة الركام، والعمل على وضع خطط قابلة للتنفيذ لعملية إعمار القطاع، والحيلولة دون إفساد اتفاق وقف إطلاق النار ومحاولة إعادة المحتل للأزمة إلى المربع صفر، فكانت الإشادة الدولية بالموقف المصري، وكان الالتفاف العربي حول الموقف المصري، واتجهت جميع الأنظار إلى مصر الحكيمة والقوية في آنٍ واحد، والداعية للسلام في العالم كله، ولديها جميع مقومات الدفاع عن مقدراتها ومقدرات هذا الوطن، والتي قالت كلمتها حتى تراجع الرئيس الأمريكي العائد أو "مقاول الأنفار" عن أطروحته الخبيثة والمضحكة وصرح بأن خطته بالسيطرة على قطاع غزة، وإعادة تطويره ليكون وجهة سياحية، وتهجير الفلسطينيين منه، سيتراجع عنها وفقط سيُوصي بها، ليبقى صوت مصر الآبي يسمعه العالم كله الآن، بأنه لا سلام في المنطقة، بل على الأرض كلها دون الوصول لتسوية نهائية تضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة