في زمنٍ تتداخل فيه خيوط القدر البشري مع سنن الكون الصامتة، تقف القضية الفلسطينية اليوم كشاهدٍ على صراعٍ ليس مجرد معركة أرضٍ، بل اختبارٌ لإرادة الأمم، وامتحانٌ لصدق الإيمان بقوانين السماء التي لا تحابي أحدًا. المستقبل هنا ليس مجرد توقّعٍ، بل قراءةٌ في مسارين: مسارُ الدماء الذي يرسمه الغزاة، ومسارُ الأمل الذي ينبثق من رحم المعاناة.
ستسقط ورقة التين التي تتستر بها "الديمقراطية الغربية" مع استمرار الكشف عن الوجه العنصري للكيان الصهيوني. الضغوط الدولية لن تكون كالسابق؛ فالعالم يشهد تحولًا جيوسياسيًا مع صعود قوى جديدة (كالصين والهند) لا ترتبط عاطفيًا بالرواية الصهيونية، بل تنظر إلى الصراع من عدسة المصلحة الخالصة. الغرب نفسه سيعاني انقسامًا داخليًا بين نخبةٍ سياسيةٍ متهالكةٍ على التحالف مع إسرائيل، وشعوبٍ تدرك أن دعم الاحتلال يُنقص من رصيدها الأخلاقي.
"حرب العقول" لا الأسلحة:
الجيش الإسرائيلي، رغم تفوقه التكنولوجي، سيُصاب بداء "الجبابرة": فكلما تضخم حجمه، ضعفت روحه. المقاومة في غزة والضفة، رغم بدائيتها أحيانًا، تتحول إلى مدرسةٍ لـ "حرب العقول" لا الأسلحة. لن تفوز الصواريخ وحدها، لكن إصرار طفلٍ يحمل حجرًا، وامرأةٍ ترفع علمًا، وشابٍ يوثّق الانتهاكات بكاميرا هاتف، سيصنعون سلاحًا جديدًا: سلاح الزمن. فكل يوم يمرُّ دون حلٍّ عادلٍ هو هزيمةٌ وجودية للكيان الذي وُلد كـ "دولة مؤقتة".
إسرائيل تعيش على اقتصادٍ هشٍّ قائمٍ على المساعدات الخارجية والابتزاز السياسي. العقوبات المقبلة على المستوطنات، ومقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال، وانزياح الاستثمارات نحو مناطق أكثر استقرارًا، ستجعل من "المعجزة الاقتصادية" أسطورةً ماضوية. في المقابل، الاقتصاد الفلسطيني رغم الحصار سيتحول إلى "اقتصاد مقاومة" – تعاونيات زراعية تزرع القمح في أسطح المنازل، وتكنولوجيا محلية تُصنع من الخردة، واقتصادٌ رمزيٌّ يعيد تعريف الغنى بالفقر.
هذا الجيل الذي يشاهد مأساة غزة مباشرةً عبر الشاشات، لن ينتظر خطباء المساجد كي يثور، بل ستكون ثورته بنفسه: بمقاطعة كل منتجٍ، وكل شركةٍ، وكل صمتٍ. في الجانب الإسرائيلي، سيتسع صدع الهوية بين "يهودية الدولة" و"ديمقراطيتها"، بين متدينين يحلمون بهيكل سليمان، وعلمانيين يفرون إلى أوروبا بحثًا عن حياةٍ طبيعية.
التاريخ ليس دائرةً تدور، بل موجةٌ تصعد. كل ظلمٍ يحمل في داخله بذور فنائه، وكل مقاومةٍ – وإن بدت صغيرة – تُذيب جبال الظلام. هذا ليس تفاؤلًا ساذجًا، بل قانونٌ قرآنيٌّ: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. الغرب نفسه، الذي منح إسرائيل شرعية وجودها، بدأ يسأم من دور "الحاضن الأبدي" لطفلٍ مدلّلٍ.
الفجر الذي لا بدّ منه:
ستأتي لحظةٌ يدرك فيها العالم أن فلسطين ليست مجرد أرضٍ، بل ضميرٌ. قد لا نعيش نحن ذلك اليوم، لكننا سنراه من بعيد كالمسافرين في الصحراء الذين يلمحون نخلةً على الأفق. الفجر لا يحتاج إلى مُنظِّرين، بل إلى صابرين يزرعون في ظلام الليل، ويوقنون أن للكون قوانينه التي لا تُخادع.
السيناريو الأقرب؟ دولة فلسطينية ضعيفةٌ هزيلةٌ تُعلن يومًا ما، ثم تتحول إلى شوكةٍ في خاصرة التاريخ، حتى يعود الحقُّ كاملًا إلى أهله، أما إسرائيل، فمصيرها إلى زوالٍ ليس لأن عدونا ضعيف، بل لأن السنن لا ترحم.
من صلب المعاناة، ومن عمق الجرح، تُنسج روحٌ جديدة تُحيي دروب الأمل. فالأمة القادمة لا تُشَيَّد بخطاباتٍ منمقة أو شعاراتٍ جوفاء، بل تُبنى بإرادةٍ صلبة كالجبال، وإيمانٍ يخترق الحُجُب، ووعيٍ يجمع بين حكمة الأجداد وطموح الأحفاد. هي ليست ثمرةَ صدفةٍ عابرة، بل نتاجُ تراكماتٍ من التضحيات التي حوّلت التراب إلى منبعٍ للكرامة، والدماء إلى شعلةٍ تُضيء دربَ الثائرين.
هذه النبتة الأصيلة لا تنمو في فراغ، بل تمتد جذورها في تربةٍ اختلطت برماد الماضي وندى الغد. إنها تعيد تعريف العروبة ليس كشعارٍ جامد، بل كحضنٍ دافئٍ يتسع لكل الأطياف، وكل الأصوات التي تؤمن بأن الكرامة لا تُقاس بحدود الجغرافيا، بل بقوة الانتماء إلى قيمٍ إنسانيةٍ سامية. وهي تُعيد إحياء الدين ليس كقوالبِ جافةٍ تُفرض بالوعظ، بل كروحٍ تسري في النفوس، تُذكِّر بالعدل، والرحمة، والتواضع، وتجعل من الدين نهرًا يروي الظمأ إلى المعنى.
ما يميز هذه الأمة الناشئة أنها لا تنفي "الآخر" لتبني ذاتها، ولا تتقمص دور الضحية لترث تعاطف العالم. إنها ترفض أن تكون صدىً لصراعات الماضي، أو دميةً في مسرح السياسات الدولية. إنها تبحث عن صوتها الخاص، صوتٌ يعزف على أوتارٍ لم تُسمع من قبل: وترُ العِلم الذي يبني، ووترُ الفن الذي يُجَمِّل، ووترُ الحكمة التي توازن بين العقل والقلب.
ملامحُ جيلٍ جديدٍ:
في ظل هذا المشهد، تبرز ملامحُ جيلٍ جديدٍ يحمل جراحَ غزة كوشماتٍ على القلب، لكنه يرفض أن تَحُدّ هذه الجراح من انطلاقته. جيلٌ يرى في الحطام مدرسةً للتعلّم، وفي الحصار فرصةً للإبداع، وفي الظلام ذريعةً لإشعال المصابيح. إنه جيلٌ لا ينتظر مُنْقِذًا من السماء، بل يحفر بيديه في الأرض ليستخرج منها بذور الحياة.
القادم مبهجٌ حقًا، لأن هذه الأمة لم تعد تُناشد العالم ليُصدّق وجودها، بل تُعلن حضورها بلسان الحال قبل المقال. حضورٌ لا يحتاج إلى دبلوماسية الكلمات، بل إلى عبق المقاومة التي تُزْهِر أدبًا، وفنًا، وفلسفةً تُعَبِّر عن روحٍ لا تُقهر. فمن بين الأنقاض، تُولد لغاتٌ جديدةٌ للحبّ، وللجمال، وللحرية التي لا تعرفُ المستحيل.
ستظل غزةُ القلبَ النابضَ لهذه النبتة، لكن الأغصان ستمتدّ عابرةً كل الحواجز، حاملةً في ثناياها رسالةً بسيطةً وعميقة: أن الأمة التي تُولد من رحم الألم لديها قوةٌ لا تُضاهَى، لأنها تعرفُ ثمن الحياة، وتُدرك أن المستقبل لا يُمنح، بل يُخْلَق بإصرارٍ يُزْهِرُ، ولو بعد قرونٍ من الصمت.
توسيع الرؤية:
الثقافة الفلسطينية سلاحٌ يوميٌّ يُحوِّل الحِجارة إلى قصائد، والجدران إلى لوحاتٍ تروي حكاية الأرض. هنا سيُولَد فنٌّ جديد من رحم الحصار: أغانٍ تُنْشَد بلغةِ الألم والأمل، أفلامٌ تُصَوَّر بكاميرات الهواتف المحطَّمة، وأدبٌ يكتبه أطفالٌ تحت القصف. هذه "المقاومة الجمالية" ستهزُّ ضمير العالم أكثر من أي خطاب سياسي، لأنها تُذَكِّره أن الإنسان هنا لا يموت، بل يخلق الحياة من بين الرماد. حتى حبات الزيتون ستصير رموزًا للصمود، تُزْرَع في كل حديقةِ منفى، كرسالةٍ إلى المحتل: "أنت تستولي على الأرض، أما الذاكرة فستأكلك".
ستُفْتَح جبهةٌ جديدة في الفضاء الإلكتروني، حيث تُحَاك المؤامرات وتُحَطَّم الخوادم. شبابٌ في غرفةٍ مظلمة بغزة يخترقون حساباتٍ إسرائيليةً ليكشفوا جرائم الحرب، وآخرون يبنون منصاتٍ بديلةً تتجاوز حجب الإنترنت، لكن التكنولوجيا هنا ليست "سلاحًا غربيًا" بل أداةً شعبيةً تُحوِّل الهزيمة إلى إبداع: طائرات مسيَّرة تُصنع من أجزاء سيارات مُدمَّرة، وتطبيقات تُنْذِر المدنيين قبل الغارات. الغرب سيدرك أن التفوُّق النووي لا يعني شيئًا أمام عقلٍ يرى في كل حطامٍ فرصةً لاختراعٍ جديد.
النضال من أجل نسمة هواء:
سيصبح نقص المياه سلاحًا استعماريًا جديدًا، لكن الأرض ستنقلب على مَنْ يستغلّها. المستوطنات التي بُنيت على أراضي الزراعة ستهتزُّ تحت فيضاناتٍ مفاجئة، كعقابٍ طبيعي للجشع. الفلسطينيون، رغم فقرهم، سيعيدون تعريف "الأمن الغذائي" بزراعة الأسطح، وتحويل النفايات إلى طاقة، واستعادة الآبار القديمة بيدٍ واحدة. الكون نفسه سينحاز إلى مَنْ يعيشون بتناغمٍ معه: شجرة زيتونٍ واحدةٍ تبقى صامدة ستُعَلِّم أطفال غزة أن الجذور أعمق من القنابل.
سيُعيد الفلسطينيون في المنفى كتابة معنى الوطن. طبيبٌ في ألمانيا يُنقذ حياة مريضٍ يهودي بينما ابن عمه يُقْتَل في الخليل، وفتاةٌ في تكساس ترفع علم فلسطين في مظاهرةٍ بينما قوات الأمن تُحَاوِل إسقاطه. هذا التناقض سيفضح ازدواجية الغرب: "حقوق الإنسان" التي يتبجح بها تَذُوب حين يتعلق الأمر بفلسطين. الشتات لن يكون نهاية، بل بدايةً لشبكةٍ عالميةٍ تُحوِّل كلَّ فلسطينيٍ إلى سفيرٍ للقضية، بدمه وقلمه وابتسامته.
النور الذي لا يُطفَأ:
وسيكون المسجد الأقصى حالةٌ روحيةٌ تجتاح قلوب المليارات. صلاة الجمعة التي تُبَثُّ سرًّا من بين الحواجز العسكرية، وتُذَكِّر المسلمين أن القدس لم تُفْقَد، بل هي حاضرةٌ في كل سجدة. حتى غير المتدينين سيدركون أن هناك "معنى خفيًا" وراء هذا الصراع الطويل: كأن الأرض ترفض أن تُسْرَق، وكأن السماء تختبر إيمان البشر بالعدل. المقاومة هنا ليست فعلَ يأسٍ، بل عبادةٌ يتقرب بها الإنسان إلى ربه.
ستتجمع الخيوط المتناثرة: ثقافةٌ ترفض الموت، وتكنولوجيا تُعيد تعريف القوة، وبيئةٌ تنتقم من جناتها، وشتاتٌ ينسج خريطةً جديدة، وروحٌ تبحث عن الحقيقة. إسرائيل ستجد نفسها يومًا ما كشجرةٍ بلا جذور، تتهاوى تحت ثقل كذبتها الكبرى: أن بإمكانها أن تُسْجَن الشمس خلف الأسلاك. أما فلسطين، فستنهض من تحت الأنقاض كالنباتات التي تنمو في التربة المالحة: ببطء، بصلابة، وبجمالٍ يُذْهِل العالم.
الفجر قادمٌ لا محالة، لأنه قانون السماء: كل ليلٍ طويلٍ يحمل في أحشائه بذور شمسٍ جديدة.
[email protected]