أصدرت دار صفصافة للنشر والتوزيع، ترجمة مى التلمسانى لكتاب «كافكا.. نحو أدب أقلى» للفيلسوفين الفرنسيين جيل دولوز وفيليكس غوتارى، وهى الترجمة التى تقول عنها الروائية والأكاديمية مى التلمسانى: «انشغلت بهذه الترجمة ما يزيد على سبع سنوات، وزاولتها بإيقاع متقطع، وبجهد جهيد لا ينفى المتعة والفائدة، ولولا أننا حصلنا على حقوق الطبعة العربية من دار مينوى الفرنسية، منذ عامين لما استطعت الانتهاء منها.«
موضوعات مقترحة
تواصل مى: أن يرتبط اسمى باسم دولوز، فى مجال الدراسات الأكاديمية المنشورة بالإنجليزية وبالفرنسية، والآن فى مجال الترجمة من الفرنسية إلى العربية، هو مصدر فخر واعتزاز بالنسبة لى، فخورة تحديدا بالمثابرة على نقل وشرح المصطلحات المعقدة مثل (ريزوم) أو (أرضنة)، مع الالتزام بالحفاظ على لغة الكاتبين السلسة، بمنأى عن تقعر اللغة العربية الفصحى.
فخورة بمحاولة توسيع نظرية الأدب، كما نعرفها فى النصوص النقدية المنقولة إلى العربية بالتقاطع مع الفلسفة، فخورة أيضا بمحاولة تجاوز محددات وقيود الثقافة السائدة فى الفكر والأدب، من أجل خلق جسر تواصل مع الأدب الطليعى، الذى يمثله كافكا، وصرخته الحرة فى وجه قوى الشر الشيطانية فى عصره، وأشعر بأن مهمتى قد تمت بنجاح عبر الترجمة، إذ شاركت بهذا الجهد والاجتهاد فى الاحتفاء بفكر الأقلية الثورى، كما يعرفه ويؤسس له دولوز وجواتارى.
يقول فوكو، إن القرن العشرين هو قرن دولوز بحق، فقد ألهمت كتاباته الفلسفية ومحاضراته وحواراته، كل من آمن بالتعدد والتجاوز والترحل والصيرورة والثورة والفكر الحر.
وقد احتفل العالم فى 18 يناير من هذا العام، بذكرى ميلاد دولوز المئة وسيحتفل فى نوفمبر المقبل بذكرى رحيله الثلاثين، وهذه الترجمة مشاركة فى الاحتفاء بفكره وفلسفته، كما احتفى هو باثنين من عظماء الأدب الأقلى فى القرن العشرين، بروست وكافكا.
فى الفصل الرابع من هذا الكتاب، مقارنة بين وظيفة الرسائل عند كافكا وپروست وقيمتها فى سياق منجزهما الأدبى، وعلاقتها بسيرتهما الذاتية، وهنا تقول مى: بدا لى وأنا أترجم الفقرة التالية، أنى أكتشف فى نفسى ملامح من تلك العلاقة المرتبكة، بين لا محدودية الرغبة وبين قصور التعبير، فالرغبة غير المتحققة هى بديل مواز للحياة ولا تستقيم إلا بمص دماء الضحية، موضوع الرغبة مع التغاضى بشكل متعمد عن وجودها.
أما التعبير الأدبى، فهو محاولة لضخ الدماء فى عروق حياة متيبسة وإعلان مضمر عن أن جريمة القتل (أو مص الدماء) مستمرة.
تواصل مى: أتقارب مع بروست نفسيا وفكريا، ويخيفنى كافكا وتضحكنى كتاباته على الرغم من قتامتها، وكلاهما ولد فى شهر يوليو، مثلى، عند انتصاف العام. نصف العام الأول مرآة نصفه الثانى، وثلاثتنا يسكن على الحافة.
تقول الفقرة التى تشير إليها مى التلمسانى:
اثنان من مصاصى الدماء، نحيلان، فاقدان للشهية، لا يتغذيان إلا على الدم بإرسال خطابات - خفافيش، المبادئ الكبرى واحدة: كل رسالة هى رسالة حب، ظاهرى أو حقيقى، رسائل الحب من الممكن أن تكون جذابة، طاردة، بهدف العتاب، توفيق الوضع، تقديم عرض، دون أن يغير هذا من طبيعة الرسالة فى شىء، الرسائل جزء من عقد مع الشيطان، تستبعد العقد مع الله، مع الأسرة أو مع الحبيبة.
...
لكن برغم التساوى فى مص الدماء، برغم التساوى فى الغيرة، ثمة فروق هائلة بين بروست وكافكا، لا ترجع فقط لأسلوب بروست الراقى اجتماعيا - الدبلوماسى فى مقابل أسلوب كافكا القانونى – الإجرائى، بل يرجع الأمر لدى كليهما إلى تجنب القرب، عن طريق الرسائل، الذى تفرضه علاقة القران، القرب القائم على وضعية الناظر والمنظور إليه (رعب كافكا حين تخبره فيليس، أنها تريد البقاء إلى جواره وهو يكتب).
لا يهم فى هذا المضمار أن تكون العلاقة رسمية أو غير رسمية، غيرية أو مثلية، لكن لتجنب القرب، يحافظ كافكا على المسافة المكانية، يراعى وضع المحبوب بعيدا، فيضع نفسه موضع السجين (حبيس جسده، غرفته، عائلته، عمله الأدبى) ويضاعف العقبات التى من شأنها أن تمنع رؤية المحبوب أو ملاقاته.
فى المقابل، نجد لدى بروست هذا الاجتناب نفسه، لكن فى الاتجاه المعاكس: يصل المرء إلى ما لا يُدرك بالحس وما لا يُرى، بمضاعفة القرب، بحيث يصبح القرب كالسجن.