لم يكن محسن الخياط مجرد شاعرٍ تصدح كلماته فى الأغانى، بل كان صوتًا يهدر فى وجه الصمت، وصرخةً تتحدى الاستسلام. لم تكن كلماته حروفًا على الورق، بل بارودًا مشتعلًا، وأرضًا تصرخ. حين غنى له عبد الحليم حافظ وشادية، لم تكن مجرد أغانٍ، بل أصداء نضال، وحلم لا يموت.
موضوعات مقترحة
كان الحب عنده امتدادًا للمقاومة، والعشق صورةً مصغّرة للوطن المسلوب، لم يكن قلمه فى الصحافة حياديًا، بل سلاحًا فى وجه الاستبداد، دفع ثمنه فى معتقل الواحات خمس سنوات، خرج منها أصلب وأكثر توهجًا.
وفى المنفى، لم ينكفئ، بل انطلق أبعد، وكان فى بيروت والمقاومة الفلسطينية امتدادًا لنضاله. لم يكن مجرد شاعرٍ فى المنفى، بل صوته فى الصحف والمنابر، وكلماته فى الأناشيد، وقلبه مع كل بندقية تُرفع دفاعًا عن الأرض.
محسن الخياط لم يكن اسمًا عابرًا، بل تجربة متفردة، جمعت بين الشعر والنضال والصحافة. كلماته رصاصة فى صدر القهر، وجسرٌ للمنسيّين، وحلم لا يشيخ.
المشهد الأول: لقاء الدهشة والدفء فى بيروت
حين وطأت قدماى بيروت، كان كل شىء جديدًا، مدينة مزدحمة بالأسئلة، مكتظة بالتاريخ، تحمل فى هوائها رائحة النضال والرصاص. لم يكن وصولى مجرد رحلة عابرة، بل بداية لمرحلة ستبقى محفورة فى ذاكرتي. فى أول نهار لى هناك، اصطحبنى فؤاد التهامى إلى شقة المغنى الثورى عدلى فخرى، حيث كانت الموسيقى تمتزج بالحديث عن المقاومة، وكانت الجدران نفسها تنبض بالأغانى التى تحمل وجع الوطن وشغف التحرير، لكن المفاجأة الحقيقية لم تأتِ بعد، كانت تنتظرنى مع غروب الشمس.
عندما أخبرنى التهامى أننى سألتقى محسن الخياط، لم أستوعب الأمر فورًا، كنت أمام اسم كبر معى، كلمات تغنيتها، دون أن أتخيل أننى سألتقى بصاحبها وجهًا لوجه. هذا الشاعر الذى رددت كلماته الشوارع، ورددتها أنا بصوت عبد الحليم حافظ فى «لفى البلاد يا صبية»، وبصوت الثورة فى «البندقية اتكلمت»، كيف يعقل أننى الآن فى طريق لقائه، فى بيته؟ امتزجت الدهشة بالبهجة، والانبهار بالمودة، كأننى أسير نحو لحظة تتجاوز الواقع، نحو شىء أشبه بالحلم.
حين فتح الباب، لم يكن فى استقبالى مجرد شاعر، بل إنسان يفيض دفئًا. كان ترحيبه حقيقيًا، عناقًا لا يحتاج إلى كلمات، كما لو أننا أصدقاء قدامى تلاقوا بعد غياب، لا غريبًا التقى بشاعر تتردد كلماته فى وجدانه. فى تلك اللحظة، لم يعد محسن الخياط اسمًا، بل صار ملامح وصوتًا وضحكةً ويدًا ممدودة بحب خالص.
لكن المفاجأة الأكبر لم تكن اللقاء نفسه، بل موقفه الإنسانى الذى كشف لى جوهره، عندما أخبره التهامى أننى دخلت بيروت عبر الطريق العسكرى، دون ختم دخول رسمى، ما يجعل الإقامة فى فندق أمرًا مستحيلًا، لم يتردد لحظة. لم يعرض استضافتى فحسب، بل أصرّ ببساطة، أن يغادر ليقيم عند أحد أصدقائه، حتى أتمكن من ترتيب أمورى.
لم يكتف بتسليمى مفتاح الشقة، بل فاجأنى بإجراء اتصال بالبقال ليُحضر لى ما يكفينى لأكثر من أسبوع: أجبان، ألبان، خضروات، فواكه، خبز، كل ما قد أحتاجه. لم يكن هذا مجرد كرم الضيافة، بل كان إحساسًا عميقًا بالمسئولية، وكأنه أراد أن يضمن لى راحة المنفى، ما دمت بعيدًا عن بلدى.
وفى الأيام التالية، كان كل صباح يتصل، يسألنى عن حالى، عما أحتاجه، كما لو كنت أخًا صغيرًا له، لا مجرد زائر عابر فى حياته.
وبعد بضعة أيام، انتقلت إلى شقة فندقية، لكن العلاقة بيننا لم تتغير. ظل تواصلنا مستمرًا، لم يكن لقاءً عابرًا، بل بداية صداقة حملت روح بيروت، ونقاء محسن الخياط، الإنسان قبل الشاعر.
فى تلك الأيام، لم يكن محسن الخياط مجرد شاعر أو صحفى، كان شخصًا يمنح بلا حساب، يحتضن الآخرين بلا شروط، يرى فى العطاء معنى الحياة نفسها. ذلك المساء فى بيروت، لم ألتقِ فقط بواحد من شعراء الوطن، بل التقيت بإنسان حمل وطنه فى قلبه، وتقاسم روحه مع الآخرين.
المشهد الثانى: محسن الخياط.. صوت المنسيّين فى بيروت
فى جنوب بيروت، حيث يمتد «الحرش»، كمنطقة معزولة، منخفضة عن الطريق، كأنها حفرة نُفى إليها من لفظهم العالم، كانت الحياة هناك بائسة، هامشية، بلا ملامح واضحة إلا الفقر والمنفى. أكواخٌ من الخشب، خيامٌ ممزقة، وعشش من الصفيح، تسكنها أجساد أنهكها الترحال: غجر، لبنانيون، فلسطنيون، سوريون، مصريون، جمعتهم الحاجة داخل وطن لم يعد وطنهم، بل منفى آخر داخل منفى أكبر.
هنا، لا مكان للكرامة، لا حقوق، لا صوت يُسمع. أغلبهم عمال نظافة فى مكاتب الثورة الفلسطينية، أو حراس عقارات فى بيروت الغربية، يقضون أيامهم فى الظل، بلا ضمانات، بلا أوراق رسمية، بلا سند. كانوا أشبه بوجود غير معترف به، مقيمون لكنهم غير مرئيين.
كان لا بد من كسر هذه العزلة. فقرر التجمع الوطنى للمصريين فى لبنان أن يكون لهم حضور فعلى، لا مجرد تعاطف نظري. فاستأجرنا مكتبًا على أطراف الحرش، ليكون نافذة لهم على العالم، محطة يجدون فيها دعمًا حقيقيًا، لا وعودًا جوفاء. ضمّت اللجنة محسن الخياط، رؤوف مسعد، وأنا، لكن من كان الأكثر حماسًا، الأكثر انخراطًا، الأكثر صدقًا، كان محسن الخياط.
لم يكن مجرد متابع لقضاياهم، بل جزء من حياتهم، صديقًا، مستشارًا، صوتًا ينطق باسمهم، كتفًا يستندون إليه. لم يكن يسأل عن جنسية أو هوية، بل كان يرى فى كل واحد منهم إنسانًا له حق فى الحياة الكريمة. لم يكن يقدّم لهم مساعدات تقليدية، بل كان يرافقهم فى مشوار استعادة حقوقهم، يبحث لهم عن حلول، ويعطيهم الإحساس بأنهم ليسوا وحدهم.
سرعان ما أصبح محسن الخياط أكثر من شاعر أو مناضل سياسى، بل أبًا، أخًا، صديقًا لكل من لفظهم المجتمع. لم يكن ذلك موقفًا سياسيًا، بل موقفًا إنسانيًا أصيلًا. فى تلك البقعة المنسية، لم يكن يوزع الأمل ككلمات جوفاء، بل كان يمنحهم حضوره، كان يمنحهم يقينًا واحدًا: أنهم ليسوا وحدهم.
المشهد الثالث: الإنسان قبل الشاعر.. جسرٌ يعبر عليه الآخرون
فى دار ضيافة ياسر عرفات، وسط نخبة من الكتّاب والسياسيين، لفتتنى طفلة صغيرة، كانت تحظى بعناية خاصة من محسن الخياط. ظننتها ابنته، لكثرة ما كان يغمرها بحنانه، ثم عرفت أنها ابنة شقيقة زوجته، فقدت والدتها، فاحتضنها كأب حقيقى، لم يكن ذلك استثناءً، بل طبيعة أصيلة فى روحه، يمنح بلا حساب، ويؤثر غيره على نفسه.
كان يرى فى نجاح الشباب امتدادًا لقضيته، لا تهديدًا لمكانته، فدعم الصحفية حياة الشيمى منذ بداياتها، نشر لها لأول مرة فى مجلة الكفاح العربى، وأصر أن تبقى مراسلة للمجلة حتى بعد عودته إلى مصر. لم يكن دعمًا رمزيًا، بل إيمانًا عميقًا، بأن دوره أن يكون جسرًا يعبر عليه الآخرون.
لم يقتصر انحيازه على الصحفيين، بل امتد إلى أدباء الأقاليم، الذين همّشتهم المركزية الثقافية، رأى فيهم أصواتًا تستحق الفرصة، فسخّر قلمه لإبراز أعمالهم، منحهم ما حُرم منه كثيرون: فرصة مستحقة.
مصر التى لم يقبل تقزيمها
برغم انحيازه للمقاومة، لم يكن يقبل الهجوم العشوائى على مصر وتاريخها بعد كامب ديفيد. ربما رفض الاتفاقية، لكنه رفض أكثر اختزال مصر العظيمة فى موقف سياسى، فجاء رده أوبريت «حكايات بهية»، الذى لم يكن مجرد استعراض غنائى، بل تأكيدًا أن مصر لم تكن يومًا خارج معادلة العروبة، وأن دورها فى تاريخ الأمة، لا يُمحى باتفاق أو خلاف سياسى.
عدلى فخرى لحن وغنى، وحياة الشيمى شاركت فى الأداء، لكن الروح التى بثها الخياط جعلت من العمل أغنية هوية، ورسالة، بأن مصر لا تُختزل، ولا تُباع، ولا تُختصر فى لحظة عابرة.
حين دعا أنور السادات الصحفيين المعارضين للعودة، كان الخياط من أوائل العائدين عام 1981. على متن الطائرة، كان يجلس بجوار حياة الشيمى، وما إن لامست عجلات الطائرة أرض القاهرة، حتى غمرته سعادة طفل عاد إلى حضن أمه. التفت إليها قائلًا: «أنا ابن فلاحين مصر.. الناس اللى مرتبطين بأرضها، لا يقدرون على العيش بعيدًا عنها».
لم يكن مجرد شاعر أو مناضل، بل ابن أرض لم تغادر قلبه، حتى وهو فى المنفى
■ ■ ■
رحيل بلا صخب
ولد الخياط فى 1 مارس 1927 فى مدينة المحمودية، محافظة البحيرة، ورحل فى بدايات 1992، فى هدوء يشبه هدوءه الداخلى، بلا ضجيج، كما لو أنه اختار أن يغادر كما عاش: ببساطة، بلا ادعاء.
لم أعلم برحيله فى حينها، ولم أتمكن من وداعه. كم يؤلمنى ذلك، كم كنت أود أن أقول له كلمة أخيرة، أن أعبر له عن الامتنان الذى لم أستطع الإفصاح عنه بما يكفى.
كان ابن الفلاحين الذى لم يتوقف عطاؤه، كالنيل، يروى الأرض ويمضى، بلا انتظار، بلا مقابل. عاش بسيطًا، لكن أثره بقى شامخًا، كمصر التى لم يساوم على عشقها أبدًا، حتى وإن اختلف مع حكامها.
غاب بالجسد، لكن من عاش بهذه الروح لا يغيب. الخاتمة حين رحل الفلاح النبيل بصمت
حين عدت إلى مصر فى أواخر الثمانينيات، كان محسن الخياط أول من رغبت فى لقائه، زرته فى جريدة الجمهورية، حيث استقبلنى بفرح صادق، فرح لا يُتصنَّع، وكأنه يحتفى بعودة أحد أبنائه. قال لى بابتسامة واثقة: أفضل قرار اتخذته هو العودة إلى مصر.
لم تكن مجرد كلمات ترحيب، بل وصية ضمنية، أن الأرض التى ننتمى إليها قد نختلف مع حكامها، لكننا لا نملك فراقها.