نظرتُ إلى القلم نظرةَ الشارد، كان راقدًا على أوراقٍ فوق مكتبي، فجأةً جثمت على صدري مشاعرُ الحزن، وتخيلتُه مريضًا ينازع سكراتِ الموت، وزاد شرودي في حالة القلم، وشعرتُ بالقلم يتباكى على زمنٍ كان فيه ملكًا متوجًا، الجميع يتبارى في رشاقة سنِّه الرصاص، وكذلك في انسياب حبره الأزرق على السطور، لترسم حروفًا ترتدي أبهى أزيائها.
لكن آهاتِ القلم وأوجاعه باتت تعلو وتصرخ أمام فضاءِ عالمٍ افتراضي، ومع مرور الوقت داهم القلمَ هو وأشقاءَه سباتٌ عظيمٌ داخل الأدراج، وطال عليهم زمنُ الغيبوبة، ولا يدرك أيُّ شخصٍ متى تفيق الأقلام، فقد انزوت الكتابةُ اليدويةُ خلف الستار إلى وقتٍ غير معلوم، واستبدلتها التكنولوجيا بلوحة مفاتيح، أجهضت تراقصَ القلم بين الأصابع، وتكتب لوحةُ المفاتيح نصوصًا رقمية منزوعةَ الروح.
بينما الخبراء يطلقون صفاراتِ تحذيرٍ من خطورة تراجع الكتابة اليدوية، وتظهر أعراضُها في إصابة اللغة والذاكرة الإنسانية بأمراضٍ عضال، أهمها خللٌ في الدائرة العصبية المعنية بالتعلم والتذكر، والكتابة الإلكترونية تؤدي إلى انحدار القدرات الفكرية والإبداعية، ويزيد الأمر سوءًا كلما استغرقت الأجيالُ في الفضاء الافتراضي.
وينتج عنها كمٌّ من كلماتٍ وعباراتٍ تفتقر إلى الروح، تشبه القوالبَ المتجمدة، وتحتوي على لغةٍ سطحيةٍ وجملٍ مبتورة، وتوضح دراساتٌ حديثةٌ أن الأدبَ الرقميَّ شوَّه جودةَ المحتوى، ويقدم نصًا ضحلًا في المضمون بأسلوبٍ ركيكٍ خالٍ من الإبداع.
برغم أن تقارير علمية تتحدث عن طفرةٍ حضاريةٍ أنتجتها الكتابةُ الرقمية، وسمحت للكُتَّاب وللمفكرين بخياراتٍ غير محدودةٍ لتطوير أعمالهم البحثية والأدبية، وذلك عبر برامج الكتابة الحديثة، وأتاحت التكنولوجيا إضافةَ عناصرَ صوتيةٍ ومرئيةٍ للنصوص الأدبية، وبمعنى آخر أن الروايةَ الرقميةَ يمكنها أن تتضمن مقاطع فيديو وتسجيلاتٍ صوتية، ولكن أرى أن تلك البرامج تُحجِّم خيالَ الكاتب والقارئ معًا.
ووصف "روتان ماكدونالد" الناقد البريطاني الأدبَ الرقميَّ بمقولته "موت الناقد"، وأرجع ذلك إلى ظهور ناقدٍ خاصٍّ يتابع الأدبَ الرقميَّ، ويتمتع بمهارات التكنولوجيا، وسبق ماكدونالد "رولان بارت" الناقدَ الفرنسيَّ ونعت الكتابةَ الرقميةَ بـ "موت المؤلف"، ويرفض تمامًا فريقٌ آخرُ من الخبراء هضمَ تلك الانتقادات اللاذعة في حق الأدب الرقمي، ويقولون إن التكنولوجيا وضعت إمكاناتٍ عديدةً أمام الإنسان، تؤهِّلُه للاتصال بعالمٍ بلا حدود، وأتاحت للمتصل التعرف على الجديد من الأفكار الأدبية والعلمية والفنية، وأطلقت له حريةَ التعبير.
ويشتد السجال بين الفريقين وينتقد الفريقُ الأولُ التكنولوجيا الرقمية أو ما يسمى بالذكاء الاصطناعي، بسبب إضعاف همة الدارس تجاه البحث والتذوق، وأنتج مسخًا أدبيًا، قد يكون مسروقًا أو خليطًا من أفكارٍ سطحيةٍ ومنقولة.
ونشر موقع "تركيا الآن" عن أضرار الكتابة الرقمية بمهارات اللغة والذاكرة، وأكد أن الكتابةَ اليدويةَ تنعش الذاكرةَ وتنوعَ مفرداتِ اللغة، وأشار البروفيسور التركي "حياتي دوه لي" إلى دراساتٍ عن علم اللغة العصبي، ويعني مفهومُ اللغة العصبي علاقةَ اللغة بالدماغ، ويضيف أن فاعليةَ الكتابة الرقمية محدودةٌ في تنشيط المهارات اللغوية، فضلًا عن دورها في القضاء على مهارة الإلمام بقواعد الكتابة والإملاء، وهذا على النقيض من تأثير الكتابة اليدوية، التي تتيح تناولَ اللغة بشكلٍ أكثر كفاءة، ولو افترضنا أن الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي يحيى الآن بيننا لرفع قلمه مُبَارِزًا، فهو من قدَّس القلم، وكتب سلسلةَ مؤلفاته تحت عنوان "وحي القلم".
[email protected]