مارست الحكومة الإسرائيلية الكثير من التلكؤ في إنهاء الحرب في غزة، وخالفت كل ما ترمي إليه إدارة الرئيس جو بايدن من عدم توسع رقعة الصراع، وفعلت كل ما بوسعها، لكي تنشر دائرة اللهب في المنطقة من إيران إلى لبنان إلى سوريا واليمن. من دون أن نغفل التلاسن الذي مارسه وزراء في الحكومة ومعلقين في وسائل الإعلام في محاولة إرباك وإلهاء وحشر القاهرة في وضع الدفاع عن مواقفها، من نوع قصص إدخال الأسلحة إلى حماس عبر الأنفاق، وانتقاد موقف القاهرة من الانضمام إلى دعوى جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية، وصولا إلى انتهاك مصر اتفاقية كامب ديفيد بزيادة عدد قواتها في سيناء، وبالإنفاق المتزايد على ميزانية الدفاع.
وقد وصل الأمر بالبعض إلى الاستغراب والدهشة مما بدا مخالفة واضحة لطلبات الإدارة الأمريكية الديمقراطية، على الرغم من انحيازها الذي رأيناه أعمى وتأييدها الذي شهدناه مطلقا لكل الأفعال الإسرائيلية، كما بدا واضحا للجميع الإصرار على عدم منح الرئيس بايدن جائزة "وقف إطلاق النار". بينما الرئيس بايدن فعل ما لم يجرؤ عليه أي رئيس أمريكي، فقد أمر بعد يومين من أحداث السابع من أكتوبر بإرسال أكبر حاملة طائرات هجومية في العالم (جيرالد فورد)، وأيام معدودات ورأيناه في إسرائيل للتضامن والتأييد، وإقراره بأنه صهيوني و"أنه ليس بالضرورة أن تكون يهوديًا لكي تكون صهيونيا"، ويمنحها الحرية المطلقة في تدمير غزة. بينما يشاركها طوال الوقت الترويج لمنتجات آلة الأكاذيب حول قتل الاطفال واغتصاب النساء من الأسرى لدى الفصائل الفلسطينية، وهناك يعيد تأكيد قناعاته القديمة بأن إسرائيل "لو لم تكن هناك لأوجدناها". وفيما بعد لا يصدق أرقام القتلى من الفلسطينيين لأن حماس هي من تعلنها، وإذا ما قال العالم إنهم مدنيون، يبرر بأن حماس مسئولة لاتخاذها إياهم دروعا بشرية.
رغم ذلك لم تمنح إسرائيل بايدن وإدارته الجائزة وانتظروا دونالد ترامب، وبينما يمكن التعليق على تدخلات ودعم أي جهة لرئيس أمريكي ما في فترة الانتخابات، فإن تناول الدعم الإسرائيلي للرئيس المنتخب أيا كان، سيكون استفهاما مجازيا، أو حكي في المحكي بالعامية المصرية. فالدور من الوضوح بما يكفي، إلا أن هناك إمكانية لملاحظة التطور الخلاق لهذه العلاقة المتشابكة. ربما نجد أن ما وصلت إليه العلاقات منذ دخول ترامب البيت الأبيض في العشرين من يناير الماضي غير مسبوق، إذا ما تذكرنا رؤساء أمريكيا منذ إيزنهاور في الخمسينات. حتى في تلك الأيام التي حالت فيها واشنطن بين إسرائيل والانهيار الكامل في حرب 1973، فإن رئيسة الوزراء جولدا مائير توسلت لوزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر لترتيب اجتماع سري مع الرئيس نيكسون لطلب النجدة، وكل ما حظيت به مقابلة مع السفير الأمريكي في تل أبيب. ولم يتحرك الرئيس الأمريكي من مكتبه، وترك اللعب لوزير خارجيته هنري كيسنجر المعروف بولائه لاسرائيل.
ولقد مررنا بعدة رؤساء أورثونا صبرا قليلا بتأخير بعض الاستجابة لطلبات إسرائيلية في خلافات غير معلنة حول سياسات متعلقة بعملية السلام.
أما الرئيس ترامب، فهو رجل واضح، يتحدث كما يفكر، ويفكر كما يحلو له، ويلبي كل طلبات إسرائيل بجلاء، وهو ملكي أكثر من الملك، يتحدث بلسانها، وينتظر إشارتها. والنخبة الحاكمة في أمريكا فعلت ذلك من قبل، ولكن كان لها خطابان، الأول صريح في الغرف المغلقة، والثاني دبلوماسي في العلن. لكن الرئيس ترامب وإدارته ألغت الازدواجية في الخطاب الأمريكي بشكل نهائي، لأنها لم تعد بحاجة إلى الدبلوماسية، بل قوة وصلابة وغلظة الطلب، خصوصا فيما يتعلق بإسناد إسرائيل.
باتت الإدارة الجديدة ترى بعين إسرائيل من دون أن تكترث للعيون الأخرى التي ارتبطت طويلا بالقيم الأمريكية في الديمقراطية والحرية والعدالة. وإلا كيف يمكن تفسير رؤية ترامب هزال أحد المفرج عنهم من حماس، فقام بالتهديد الفوري بتحويل غزة إلى جحيم. بينما لم ير نساء وأطفال ورجال ينهشهم برد غزة أمام بيوتهم المدمرة، ولا يجدون الماء ولا الغذاء ولا العلاج، ويقترح الحل الغريب والمدهش، في إبعاد هؤلاء وتهجيرهم من المكان المدمر، وتحويله إلى مدن وشواطئ جميلة.
ولم يتساءل أحد في الإدارة الامريكية عما تسبب في هزال الأسير المفرج عنه، وعن كيفية إطعامه أو علاجه، وسط حراسه الذين لا يجدون لأنفسهم طعامًا ولا شرابًا ولا علاجًا.
لم يكن انتظار وصول ترامب إلى البيت الأبيض مجانيًا أو إمعانًا في معاقبة بايدن واعطاءه درسا قد ينفع الحزب الديمقراطي في يوم ما، وإنما انتظارا لرجل المكافآت الذي سيرد على استجابة إسرائيل لطلبه وقف إطلاق النار، بسيل غامر من الفرص التي لم يحلم بها مؤسسو إسرائيل أنفسهم. فضلا عن أنه لن يقوم بهذا في السر، إنما في العلن، مما يحقق أيضا مبدأ الردع الواضح وليس بالظن، لكل من يحاول معارضة إسرائيل، أو حتى يطلب إيقافها عند حدود معينة. وليس ترامب من النوع الذي يسعى إلى بذل الجهد في إنكار دور إسرائيل في صياغة القرار الأمريكي، ربما عليه فقط ألا يسبق إسرائيل بخطوة، كما يتضح لنا الآن.