"كلهم يدعون وصلا بالاستدامة.. والاستدامة لا تقر لهم بذاك"..
يتردد مفهوم "الاستدامة"، في غالبية المناسبات والمحافل والفعاليات، باعتباره دليلا يختزل التحديات والطموحات للوصول إلى مستقبل أكثر أمنا وسلامة، وهو كذلك بالفعل، حيث يعد المفهوم محصلة لنشاط الإنسان وحركة الكائنات في الطبيعة، فالكل ينشد الاستدامة، إلا أن من يصدق القول مع الفعل قليل.
وإذا كان طريق الاستدامة يمهد للمستقبل الآمن، فإن من الفن أيضًا العلامات والإشارات الموصلة على الطريق، والتي توضح سلامة الطريق واستقامته للوصول إلى هدف "جودة الحياة" حاضرًا ومستقبلًا.
وأمام كثافة التطور البشري، الذي انتقل بدوره وضغط على الطبيعة وعناصرها، وتوجهات جديدة للمجتمعات المعاصرة لمواجهة المشاكل التي ظهرت وتفاقمت، ويأتي على رأسها تلوث البيئة فضلا عن تغيرات المناخ، فقد أدت هذه الكثافة وذلك التطور إلى ظهور بعض المفاهيم والمصطلحات مثل العمارة الخضراء، والتصميم الذكي الفعال للطاقة، والحوكمة الرشيدة لاستخدام الموارد، والمباني المستدامة، والمدن الصديقة للبيئة، كما بزغ مؤخرًا مفهوم "الفن المستدام"، منبها إلى تأثير نشاط الإنسان على المحيط الحيوي، باعتبار أن بيئة الإنسان تقع في مدار الحيز الداخلي المكاني للمبنى الذي يعيش فيه الإنسان، ومن ثم إلى الفراغ الخارجي المحيط به.
كما ظهر مفهوم الفن المستدام وتنمية الإنسـان، خلال مبادرات الاقتصاد الدائري، وكذلك الفن المعاد تدويره في قلب هذا الاقتصاد الدوار، الذي بدأ مع إدارة النفايات، والتخلص الآمن منها وتدويرها في عناصر الطبيعة، لينتقل إلى التصميم الذكي المحفز للابتكار.
"الفن المستدام" هو فن لا يتوقف فقط عند تدوير المتبقيات أو المخلفات الصلبة من عناصر الطبيعة، ولكن يهتم بالتدريب للفنانين علي ريادة الأعمال، وإعداد سفراء وسفيرات للفن المستدام، وتنظيم مسابقات حول دور الفن المستدام لدعم المجتمعات المستدامة تحت شعار: "أبدع وألهم غيرك يبدع".
والفن لا تعكسه إحدى اللوحات هنا أو هناك فقط، بل هو أيضًا نبض المجتمع، باعتباره محركًا قويًا نحو التنمية البشرية المستدامة، كما يحرض البشر على الابتكار المحفز نحو النمو الشامل والمستدام.
وللمتاحف والمعارض دور مهم يتجسد في خدمة وتنمية المجتمع، وكذلك في صـوت واستدامة التراث المادي والمعنوي، وكذلك استدامة التقاليد مـن حـرف وصناعات وثقافات مثل مفهوم المتحف الأخضر، حيث تعتبر الفنون والثقافة أحد العوامل الأساسية في تحقيق التنمية المستدامة، فهي تساهم في تعزيز التفاهم الثقافي وبناء جسور التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة، كما تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على التراث الفني والثقافي، وتعزيز الهوية الوطنية.
وكان المعهد القومى للحوكمة والتنمية المستدامة التابع لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصـادية، قد أطلق مبادرة "الفن المستدام وتنمية الإنسـان"، بالتعاون مع مؤسـسـة المنتدى الدولي للفن التشكيلى من أجل التنمية - "WAFDF “World Art Forum For Development Foundation ، وتهدف المبادرة إلى دعم شباب الفنانين باعتبارهم مستقبل الفن التشكيلي، وأيضًا دعم المرأة من خلال الاقتصاد الإبداعي والفن التشكيلى الذى يعتمد على إعادة تدوير المخلفات الصلبة والحفاظ على البيئة.
مؤسس ورئيس المنتدى راندة فؤاد، ترى أن تآلف فكرة الفن التشكيلى، بمفهوم الاستدامة، وإعادة التدوير، تحمل أبعادًا بيئية متعددة، منها أن إعادة استخدام المخلفات، يساعد على صيانة الموارد واستمرار بقائها، وتجنب الملوثات الناتجة عن عدم إعادة تدوير تلك المخلفات، فضلا عن المساهمة، غير المباشرة، في التخفيف من ظاهرة الاحتباس الحراري، وكذلك التواصل مع كافة فئات المجتمع ومنهم الفنانون التشكيليون، حيث الفن المستدام ليس فقط الفن الخاص باللوحات التشكيلية، بل أيضًا بطريقة ارتداء الملابس المعاد تدويرها، كما تستخدم المواد الطبيعية من مختلف مكوناتها البيئية من الرمل والطين وأوراق الأشجار وما تكنه لنا الطبيعة.
قبل انتشار الوعي البيئي، كان مفهوم "الفن للفن" هو السائد، أما اليوم، فإن "الفن للتنمية وللإنسان"، حيث لا نستطيع إغفال دوره في تنمية المجتمع واستدامة مواردها عبر تطوير عناصرها والحفاظ على التوازن البيئي، من خلال التقليل من استهلاك الموارد الطبيعية وإعادة تدوير المواد وتنمية الطاقة المتجددة، وتحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع، حيث تعد الفنون والثقافة جزءًا حيويًا من التنمية المستدامة، فهي تعزز التواصل والتفاعل الاجتماعي وتعكس تراث الشعوب وتعبيرها الفني الفريد.
إلا أن تطبيق مبادئ التنمية المستدامة في المجال الفني والثقافي يواجه العديد من المعوقات نحو تحقيق التنمية المستدامة وضمان استمراريتها، منها تواضع الوعي، وضعف التمويل المستدام، وغياب التشريعات المرنة، وذلك يتطلب جهودًا مستدامة ومستمرة، لكي يتحقق الهدف من الفن المستدام، ويتم الربط بين التراث الحضاري مع المعاصرة، حيث تتميز الأعمال الفنية بأسلوب يستخدم مواد طبيعية مختلفة مع ألوانها المبهجة، تحقق تمازج الحضارة بالحداثة، كما تشكل الألوان مصدرًا للطاقة الإيجابية لتحقيق التوازن النفسي والوجداني، من خلال مشاهدة تناغم إبداع الله، سبحانه، في الإنسان وفي الكون معًا.
[email protected]