راوية عبد العظيم.. في معركة التنوير

18-2-2025 | 19:57
راوية عبد العظيم في معركة التنويرراوية عبد العظيم
الهامي المليجي
الأهرام العربي نقلاً عن

لم تكن راوية عبد العظيم مجرد ناشطة يسارية، بل مناضلة دفعت ثمن قناعاتها بالاعتقال والملاحقة، مكرّسة حياتها للنضال على حساب أحلام الاستقرار. لم يكن خيارها سهلًا، لكنه جاء من إيمان بأن القضايا الكبرى تستلزم تضحيات كبرى.

موضوعات مقترحة

وحين أدركت أن التغيير لا تصنعه الشعارات وحدها، بل الأفكار المتجذرة فى العقول، انتقلت إلى ساحة أكثر عمقًا وأطول نفسًا: النشر والتنوير. أسست «دار سينا»، لم يكن الاسم اعتباطيًا، بل محملًا بدلالة وطنية ومقاوِمة، تؤمن بالتحرر من كل أشكال الظلام والجمود. دار سينا.. صوت فى وجه الظلام

لم تكن «دار سينا» مجرد دار نشر، بل مشروع ثقافى ثورى اخترق الأسوار وفتح نوافذ الفكر الحرّ. لم تبحث راوية عن الكتب الرائجة، بل عن الكتب التى تطرح الأسئلة الصعبة، محتضنةً أعمال مفكرين تنويريين مثل نصر حامد أبو زيد، الشيخ خليل عبد الكريم، نوال السعداوى، سيد القمنى، ولويس ورمسيس عوض، وغالى شكرى وحسين أمين ورمزى زكى وفوزى رشيد، وبثنية الناصرى، وعبدالهادى عبدالرحمن ومحمد الأسعد وغيرهم. كانت تدرك أن كل كتاب تصدره قنبلة فى وجه التراجع والانغلاق.

«دار العصور».. استمرار لمعركة الفكر

لم يكن نجاح «دار سينا» نهاية الرحلة، بل بداية مرحلة أجرأ مع «دار العصور» ومجلتها الفكرية المقاومة لكل أشكال التجهيل والتطرف. نشرت أعمال المفكرة اليمنية الجريئة أبكار السقاف وغيرها، وواصلت مشروعها التنويرى بلا تردد أو مساومة.

إرث لا يموت

لم تكن راوية عبد العظيم ناشطة تحولت إلى ناشرة، بل مناضلة حملت مشعل الوعى فى مواجهة الظلام. لم تبحث عن مجد شخصى، بل راهنت على المعرفة، على الكلمة، على الكتاب الذى يُقرأ بصوت عالٍ فى عقول الأجيال المقبلة.

وحين غادرت، بقى أثرها حيًّا فى كل كتاب حمل اسم «دار سينا» أو «دار العصور»، كأنها لم ترحل أبدًا.

المشهد الأول: لقاء لم يكن فى الحسبان

حين وصلت إلى بيروت أواخر السبعينيات، كانت المدينة تعج بالمناضلين العرب، وكان السكن الذى استقررت فيه تابعًا للجبهة الديمقراطية، حيث التقيت بشخصيات يسارية من مختلف الأقطار، فى هذا المناخ الثورى، سمعت عن راوية عبد العظيم، لكن كان التحذير واضحًا: «فلا تتواصل معها، لقد انشقت عن الحزب وشكّلت فصيلًا آخر».

لم أكن معنياً بالاستقطابات الحزبية، لكننى احترمت النصيحة، حتى جاءت راوية بنفسها، طرقت بابى بثقة، وسألت عن سبب تجنبى لها. لم يكن اللقاء الأول مريحًا، لكن شيئًا فى شخصيتها جذبنى برغم تحفظى.

لاحقًا، أهدتنى نسخة من «الأفق الأحمر»، كأنها تفتح نافذة للحوار عبر الفكر لا المجاملات. كان هذا مفتاح التقارب الذى لم أخطط له.

بمرور الوقت، أدركت أنها لم تكن مجرد ناشطة سياسية، بل شخصية صلبة، واعية، تملك تجربة نضالية خاصة، بعيدة عن الشعارات الجوفاء. عبرها، تعرّفت إلى مناضلين عرب آخرين، واتسعت رؤيتى. ما بدأ بتحذير صار علاقة قائمة على الاحترام المشترك والتجربة الحية.

المشهد الثانى: الاختفاء والعودة من بوابة النشر

مثلما دخلت حياتى فجأة، اختفت فجأة عام 1980، علمت لاحقًا أنها تزوجت من يسارى إيرانى وانتقلت إلى باريس، وبدت وكأنها طوت تلك المرحلة دون وداع.

لم أسمع عنها حتى أواخر الثمانينيات، حين قادنى الفضول إلى دار سينا للنشر فى القاهرة. وجدتها هناك، لكنها لم تعد نفس المناضلة الحزبية التى عرفتها فى بيروت. قالت لى بوضوح:

النشر أكثر فاعلية من العمل الحزبى فى ظل هذا المناخ السياسى”.

لم يكن انسحابًا، بل تحول إستراتيجى، لم تتخلَّ عن قناعاتها، لكنها أدركت أن الكلمة أكثر بقاءً من الشعارات المؤقتة، كانت اختياراتها دقيقة ومدروسة، منحازة للأدب والفكر التنويرى، موجهة ضد الاستبداد والرجعية.

حين أخبرتها بنيتى تأسيس دار النديم، لم تتردد فى الدعم، ليس فقط بالكلمات، بل بالخبرة والشبكات التى بنتها فى عالم النشر. لم ترَ فى الناشرين الجادين منافسين، بل حلفاء فى معركة الوعى.

لم تتغير راوية، بل أعادت صياغة معركتها، واستبدلت المواجهة المباشرة بمعركة أكثر عمقًا، وأكثر استدامة: معركة الفكرة والكتاب.

المشهد الثالث: حلم دار نشر كبرى لم يكتمل.. لكن الصداقة بقيت

فى أوائل الألفية، جاءنى اتصالٌ من راوية عبد العظيم، بصوتها الحاسم والواثق:

أريد أن ألتقيك للضرورة

لم توضح التفاصيل، لكنها أخبرتنى أنها أسست دار “العصور الجديدة” فى جاردن سيتى، وتريد التباحث حول مستقبل النشر. حين التقينا، وجدتها أكثر حماسًا وتصميمًا من أى وقت مضى.

لماذا لا نوحد جهودنا؟ عصر المؤسسات الكبرى يفرض علينا التكتل، لا التفرق. لنؤسس دار نشر كبرى، تكون منارة لنشر الكتب التنويرية، ونؤكد على استمرار مجلة العصور الجديدة، كمنارة عربية كبرى.

كانت رؤيتها واضحة: كيان ثقافى قوي، يتصدى للرداءة والتسلط الفكري، ويخلق مساحة أوسع للفكر التنويرى.

اتفقنا على تحويل الحلم إلى واقع، وبدأنا التحرك مع شركاء مؤمنين بالفكرة:

د. سالم بيت المال، الاقتصادى الليبى.

د. أحمد إبراهيم الفقيه، الكاتب والأديب الليبى.

نبيل مروة، الناشر اللبنانى.

مهدى مصطفى، الكاتب والشاعر.

تم توكيل المحامية سهام أحمد مجاهد لصياغة عقد الشراكة، وتم الاتفاق على أن أتولى رئاسة مجلس الإدارة، بينما تكون راوية العضو المنتدب والمدير العام.

لكن، لأسباب خارجة عن إرادتنا، تعثّر المشروع ولم يُكتب له أن يرى النور بالشكل الذى حلمنا به.

ما بقى بعد ذلك.

برغم ذلك، لم تتوقف راوية. واصلت وحدها العمل على مشروعها، ويكفى أنها أنشات “العصور الجديدة”، على مدى سنوات لكنها لم تصبح المؤسسة الكبرى التى أرادتها، بل بقيت كيانًا قائمًا، وإن كان بإمكانات أقل مما كانت تطمح إليه.

لم يكن الإخفاق نهاية للعلاقة، ظل الاحترام قائمًا، والتعاون مستمرًا، والود حاضرًا، لم تكن راوية ممن يستسلمون للصعوبات، كانت مقاتلة بالفكر، مقاومة بالكلمة، حتى آخر لحظة من حياتها.

قد لا تكون مؤسسة “العصور الجديدة”، خرجت كما حلمنا، لكنها بقيت شاهدة على إصرار راوية، وعلى إيمانها بأن الكلمة وحدها كفيلة بتغيير الواقع.

المشهد الأخير: رحيل الجسد.. وبقاء الأثر

لم يكن طريق راوية عبد العظيم مفروشًا بالورود، بل كان مسارًا وعِرًا محفوفًا بالأشواك، مليئًا بالمواجهات التى لم تنل من عزيمتها، بل زادتها ثباتًا. كانت دار العصور الجديدة بالنسبة لها أكثر من مجرد دار نشر، كانت حصنًا للأفكار الحرة، وجسرًا يربط الماضى بالحاضر، ويحمل همّ المستقبل، لم يكن غريبًا أن تتعرض لمضايقات ممن ضاقوا ذرعًا بالكلمة المستنيرة، فرأوا فيها خطرًا على عروش الجمود والتخلف.

المعركة الأخيرة

حين تصاعد دورها التنويرى، لم تتأخر القوى الظلامية فى شنّ هجومها عليها، فى محاولة لإسكات صوتها وإطفاء جذوة فكرها، لم تكن معركتها مع الفكر الرجعى سهلة، فقد طالتها حملات التشويه والتضييقات القانونية، وانتهى الأمر بإغلاق دار العصور الجديدة، وكأنهم أرادوا إخماد الصوت الذى اخترق حجب الظلام. ومع ذلك، لم يكن هذا القرار نهاية المعركة، بل بداية مرحلة جديدة من المقاومة، إذ لم تتوقف عن العطاء، واستمرت فى التواصل مع رفاقها، تنثر أفكارها وتحرض على الوعى، حتى إن اضطرت للابتعاد قليلًا عن صخب المواجهات المباشرة، وانتقلت إلى مدينة السادس من أكتوبر.

وداع الفجر الأخير

فى صبيحة 20 مايو 2021، وبينما كانت الحياة تمضى كعادتها، جاءنى اتصالٌ قلب المشهد رأسًا على عقب، كان الصوت هادئًا، لكنه محمّل بثقل لا يطاق:

روح خالتى راوية غادرت جسدها فى الساعات الأولى من الصباح

كأن الكلمات كانت تخشى أن تُقال، كأنها تحاول الاحتماء بالصمت قبل أن تخرج إلى العلن. لكن الجملة التالية زادت من عمق اللحظة، وجعلتنى أدرك أن راوية، حتى فى رحيلها، كانت تُفكر فى رسالتها الأخيرة:

أوصتنى أن أبلغك أنت والصديق مهدى مصطفى

توقف قليلًا، وكأنه يبحث عن أنسب طريقة لنقل الوصية، أو ربما كان ينتظر أن أستوعب الحقيقة قبل أن أكمل، فى تلك الثوانى الصامتة، مرت أمامى عشرات المشاهد: لقاءاتنا، نقاشاتنا، صراعاتها الطويلة، نضالها من أجل الكلمة، وعيونها المضيئة برغم التعب.

عندما استجمعت قواى وسألته عما أوصت به، جاء الرد مختصرًا، لكنه اختزل كل شىء:

ألاّ تدعوها تنسى... أن تبقى كلماتها حية، وكتبها شاهدة، وأفكارها تقرع الأبواب”.

كانت تلك هى راوية عبد العظيم حتى اللحظة الأخيرة، لم تكن تطلب تأبينًا، ولم ترغب فى رثاء، بل أرادت فقط أن يستمر أثرها، أن تبقى الكلمة التى نذرت حياتها من أجلها متقدة، لا تنطفئ برحيل الجسد.

■ ■ ■

ولدت راوية عبدالعظيم فى 16 مايو عام 1949 فى الجيزة، واليوم، وبعد سنوات من رحيلها، لا تزال أفكارها تحلق فى فضاء الفكر الحر، وكأنها زهرة نبتت فى أرض عصية على التصحر، لم يكن رحيلها نهاية، بل بداية حقيقية لمعركة أخرى، معركة الحفاظ على الأثر، ونقل الشعلة لمن يكمل الطريق.

وداعًا راوية، رحل الجسد، لكن روحك ستظل فى كل حرف تركته شاهدًا على زمن كان، وزمن لا بد أن يكون.A

الخاتمة حين يبقى الأثر

قد يمضى الجسد، لكن بعض الأشخاص يتركون فى الحياة بصمة لا تمحى. راوية لم تكن مجرد ناشرة أو مثقفة، بل كانت صوتًا لم يُطأطئ رأسه أمام العواصف، ولم يهادن، ولم يتنازل. وحتى بعد أن أُغلقت دارها، لم يُغلق كتابها الذى بدأته ذات يوم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: