يُستخدم مصطلح "الطَّرَف الشَّبَحي" للتعبير عن تلك الحالة -الحسية- التي يعيشها الإنسان بعد فقد/بتر ذراعه أو قدمه لسبب طبي، أو نتيجة تعرضه لحادث؛ لكن -رغم بتر هذا الجزء من الجسد- يظل العقل رافضًا لعملية البتر، ويستمر في التعامل مع الطرف المبتور كأنه لم يزل موجودًا في الجسم؛ إذ يشعر الإنسان صاحب الطرف المبتور بألم شديد في هذا الجزء من جسده، فالعقل يظل يستقبل ويرسل إشارات من وإلى الطرف المبتور.
مشاعر مُرْبِكة يعيشها الإنسان في تلك الحالة؛ إذ يكون الإحساس بالألم، وتكون الرغبة في تحريك ذلك الجزء المبتور من الجسد، ذلك الجزء الذي يشعر الشخص بوجوده لكنه لا يراه، وكأنه الشبح الخفي؛ ومن هنا كانت تسمية تلك الحالة الجسدية الحسية بالأطراف الشبحية.
كيف تكون الأطراف الشبحية في العلاقات الإنسانية؟
تحدث عملية البتر في العلاقات الإنسانية من خلال الفقد، سواء كان فقدًا بالموت أم غيره من أشكال الغياب؛ إذ مع فقد الآخر طرف العلاقة يتحول هذا الآخر المفقود إلى طرف شبحي يُربك البناء النفسي للشخص الذي تعرض للفقد، أو لعملية البتر.
التاريخ اللاشعوري -الجمعي والفردي- للبتر في العلاقات الإنسانية:
البتر الأول الذي كابده الإنسان -ويمكنني تسميته اللبنة الأساس للفقد في اللاشعور الجمعي الإنساني- كان لنبي الله آدم -عليه الصلاة والسلام- ورفيقته حواء؛ إذ كانت عملية البتر الأول في التاريخ البشري، وأول حالة فقد اختبرتها النفس الإنسانية -أو ما يمكن تسميته بالحفرية اللغز- بعد البتر.
حالة من التيه النفسي عاشها آدم بفقده حواء بعد هبوطهما الأرض؛ وأحسب أن آدم قد كابد أوجاع البتر بشكل أعمق من مكابدة حواء له، لعدة أسباب، منها:
1. اختبر آدم الوحدة قبل خلق حواء، تلك الوحدة التي لم تختبرها حواء؛ إذ منذ البدء وجدت الرفقة في آدم.
2. حواء في وجودها الفعلي كانت جزءًا من آدم قد تم بتره؛ وكأنه -آدم- قد كابد أوجاع الفقد/البتر لاشعوريًا عند تكوين حواء من جسده، فكانت جزءًا قد بُتِر من جسده، وكابد هذا البتر شعوريًا عند فقد حواء بعد الهبوط إلى الأرض.
3. وطأة الفقد على آدم كانت أقوى منها على حواء، كونه -آدم- قد عاش لذة رفقة من كانت من نفس تركيبته، بعد معايشة رفقة من ليسوا من تركيبته وهم الملائكة؛ لذة رفقة الشبيه تلك لم تختبرها حواء بنفس عمق معايشة آدم لها، كونها منذ البدء وجدت رفقة الشبيه، ولم تختبر معايشة مخلوقات تختلف عنها في التكوين.
إن كان فقد آدم لحواء هو البتر الأول القابع في عمق اللاشعور الجمعي البشري، فهناك البتر الأول القابع في عمق اللاشعور الفردي؛ وهنا أشير إلى عملية الميلاد، أو عملية بتر الجنين من رحم الأم؛ فإن كانت الأم -لا شعوريًا- ترغب في استعادة هذا الجزء المبتور منها، فالمولود يظل مرهونًا برغبة مستحيلة وهي أن يستعيد جنته المفقودة بالعودة إلى رحم الأم؛ تلك الرغبة المستحيلة التي تتحقق -فقط- بالموت، ليعود الإنسان إلى الرحم الأول وهو الأرض؛ إذ منها قد بُتِر آدم ترابًا قبل البدء!
إذن، الفقد -البتر- حال فُرِضَتْ على الإنسان قبل البدء، وعند البدء، وبعد البعد؛ إذ خُلِقَ الإنسان ليفقد ويُفقد، ليكابد مرارة البتر وأوجاع الأطراف الشبحية.
من منا لم يكابد مرارة تلك الحال من الفقد والبتر في العلاقات الإنسانية؟!
كل إنسان توجد في حياته تلك العلاقات الإنسانية التي تحول فيها الآخر إلى طرف شبحي يرفض العقل الاعتراف ببتره، هذا الرفض العقلي -شعوريًا ولا شعوريًا- يفرض على الإنسان العديد من الأفكار والمشاعر المتضاربة ينتج عنها العديد من الأفعال القهرية التي يقوم بها الإنسان -مُجبرًا- حتى وإن كان غير راضٍ عنها؛ ومع استمرار هذا الرفض لعملية البتر، ومع استمرار الشعور بالطرف الشبحي -الآخر المبتور- يسيطر الاضطراب النفسي وتتجلى الأعراض المرضية، وينسحب الإنسان تدريجيًا من الحياة، ليكون في محبس انفرادي يقتات على ذاته وذكرياته، وخيالاته وأوجاعه.
كيف يمكن التعامل مع الأطراف الشبحية في العلاقات الإنسانية؟
تختلف طريقة التعامل مع الأطراف الشبحية في العلاقات الإنسانية وفقًا لطبيعة العلاقة وقوتها، وكيفية وعي الإنسان بالآخر طرف العلاقة المبتور، ووعيه بذاته وتقديره وحبه لها؛ إذ كلما كان تقدير الإنسان لذاته منخفضًا، وحبه لها محدودًا، كان الفقد مُهدِّدًا للوجود، مُبعثرًا للذات، يصعب تجاوزه.
لكن، يمكن للإنسان الذي يمر بتلك الحال من الفقد أو البتر في علاقة إنسانية أن يبدأ بتدريب عقله على فكرة الغياب، فكرة أن الآخر قد تم بتره، وقد خرج من حياته للأبد.
ورغم صعوبة الموضوع، وصعوبة الوجع الروحي والنفسي الذي يعيشه الإنسان بعد بتر العلاقة الإنسانية، إلا أن مرور الوقت واستمرار تدريب العقل على أن الآخر طرف العلاقة قد أصبح طرفًا شبحيًا وليس وجودًا حقيقيًا، وأنه مجرد ذكرى من آلاف الذكريات التي يحتويها، سيتمكن العقل من تقبل عملية البتر ومعايشة الواقع والحياة.