نعم، نستطيع.
نتعرض إلى خطر مباغت، يطل من زوايا غير متوقعة، يتسلل عبر الشقوق، يتربص بالإقليم العربي، يختبر صلابته، وإرادته، ووجوده المادي والمعنوي.
الاختبار قاس، وعلينا اجتيازه بنجاح، وعلينا أن نمشي فوق جسر النصر، إما النصر أو الشهادة.
صانعو الاختبار لم يقرأوا سيرتنا حقًا، لم يقرأوا كيف هزمنا غزاة البحر، والهكسوس، وكيف أنهينا أسطورة المغول، بينما كان صانعو الاختبار الحاليون يرتعدون خوفًا من عبور المغول للبحر المتوسط، لكننا كسرناهم قبل أن يمروا، ويا للمفارقة، جرى ذلك على أرض فلسطين التي يدور عليها الاختبار الطارئ.
في مقال سابق قدمت الشكر للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على أنه أفرغ الجعبة مرة واحدة، وكشف اللعبة التي كانت تلعب ببطء على مدى قرون طويلة، وقرر أن يكشفها مرة واحدة دون تردد.
يا له من اختبار قاس، لكنه ليس قدرًا محتومًا، فبإمكاننا تجاوزه، وعبوره، والوقوف فوق جسر النصر، حيث تهب رياح الحرية المفقودة منذ الاحتلال العثماني، حيث تتحرر الإرادة من قيد الوهن والتردد، فلدينا كنز لم نفتحه بعد، طاقة لم نطلقها، وقدرة لم تختبر بعد.
العالم الجديد الذي تمثله جماعة ترامب وتمثله المسألة اليهودية يدرك أن الكنز المخبوء يحظى بقوة غير محدودة عند الحسم، لكن ترامب يراهن، أو يراهنون، على أننا لن نستخدم ما نملك، ويعتقد أننا تكيفنا مع سياسة دولية، تقسم العالم إلى قوى عظمى، وقوة أخرى تدور في أفلاكها.
نحن نحب السلام إلا إذا تم أجبارنا، أو إذا تم دفعنا إلى الزاوية، وإذا لم يبقَ لنا خيار سوى المواجهة.
يظنون أننا ندور في أفلاكهم، تابعون لا قادة، مستهلكون لا مبدعون، غير أن الحقيقة أعمق من ذلك، هم من دنيا قوية، نعم، ولديهم إمكانيات مهولة، وقوة مفرطة، وجنون خيالي، وأطماع بلا حدود، لكنهم ليسوا منزهين عن الخطأ، وليسوا بمنأى عن الانهيار، فما من حضارة بلغت القمة إلا وكتبت بداية انحدارها.
إن الأقواس المشدودة استعدادًا لإطلاق السهام تجعل أعيننا مفتوحة على اتساعها، توقظنا من سبات طويل، سبات امتد لقرون، بدأ مع لحظة الاحتلال العثماني للإقليم العربي، واستمر مع الاستعمار الأوروبي، الذي زعم أنه جاء ليحررنا، لكنه استبدل قيدًا بقيد، وسلطة بأخرى، واحتلالًا بوصاية، ويدعي الاستعمار الحديث أنه تسلم بلادنا من العثمانيين، وليس من أبنائها الشرعيين، وأنه جاء من أجل «التحديث»، لكن الحقيقة أن تحديثه لم يكن سوى إعادة تشكيلٍ للقيود.
كلاهما استعمار، وكلاهما وضعنا في صندوق محكم الإغلاق، لا ينتمي إلى حضارتنا أو ثقافتنا أو عقائدنا، حاولوا أن يجعلونا نتكيف مع ثقافة الإحكام هذه، وأن يجعلونا ننسى كيف نكسر الأصفاد، حتى ظنوا أننا استكنّا ورضخنا، وانتهينا إلى طريق يفضى إلى مصير الهنود الحمر.
الإقليم العربى لم يكن يومًا سهلًا ولا رخوًا كما يظنون، وليس ميدانًا صالحًا للرماية، أو مساحة مفتوحة لاختبار القسوة، إنه رسالة واضحة ساعة الحسم، تُوجّه إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء.
رسالة تقرأها أوروبا وآسيا، وتفهمها روسيا واليابان والصين، وتعيد واشنطن صياغتها وفق مصالحها الإستراتيجية، إذا رغبت حقًا في تقدير ماضى وحاضر ومستقبل هذا الأقليم الذي يمثل رقمًا صعبًا في المعادلة الدولية.
ثمة خرافات موروثة يرددها فلاسفة الهيمنة، يظنون أنهم انتصروا وحسموا مصير الشرق الأوسط، بل مصير العالم، يكتبون نظرياتهم بمداد الغطرسة، ويضعون حدودًا للخطر وللنصر وفق رؤيتهم، غير مدركين أن التاريخ لا يسير وفق رغباتهم وحدهم.
نعلم أن لا شيء يدوم، وأن من يعتلي كرسي الإمبراطورية قد يكون منفيًا غدًا، وأن الأمم التي تنهض من تحت الركام تكون أقوى، وأكثر حكمة، وأصعب مراسًا.
نعم، نستطيع، إن قررنا، إن وعينا، إن امتلكنا زمام أنفسنا، فالطريق إلى النصر لم يُغلق بعد، والكنز المدفون في ذواتنا لم يضِع، كل ما نحتاجه هو أن نعيد تعريف الحدود: حدود الخطر، وحدود النصر.