ما أقسى أن يستفيق الإنسان على حقيقة أنه كان في قلب امتحان، بينما ظن نفسه في مأمن، كأن الحياة تُتقن فن الخديعة، تتركنا نركض نحو سرابٍ نظنه اليقين، حتى إذا ما وصلنا، أيقظنا الندم بعد فوات الأوان. العدل ليس حُكمًا يُلقى في وجوه الآخرين، بل بصيرة تنبثق من جراح القلب الذي اختُبر بالخسارة.
والإيمان، ذلك الحنين الأبدي نحو المطلق، ليس يقينًا ساكنًا، بل ارتحال لا ينتهي في دروب الروح العطشى للحقيقة.
كم نظن أننا في قمة وعينا، فيما نحن غارقون في غفلة ناعمة، محاطون بفتنة تُنسج حولنا بخيوط من حرير الوهم، قلة هم الذين لا تغريهم التسع والتسعون نعجة، الذين يدركون أن الامتلاء المادي عطشٌ مقيم، كظمآن يشرب ماء البحر، فلا يرتوي بل يحترق أكثر. الإنسان، مذ خُلق، بين فتنتين: فتنة الطمع وفتنة الحكم. وكلتاهما تلبسان قناع الحق، تُسحران الروح في لحظة الغفلة، وتجعلان القلب يحسب نفسه عادلًا، وهو في الحقيقة يُختبر في عدالته.
تلك اللحظة التي دخل فيها الخصمان على داوود، ليست مشهدًا من تاريخ النبوة، بل حكاية الإنسانية في أبسط تجلياتها وأعمقها: "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها، وعزّني في الخطاب". يا لهذا الجشع الذي يسكن الأرواح، ذلك الجوع الذي لا يُشبع، كأن الاكتمال سرابٌ نطارده حتى يُنهكنا.
حكم داوود سريعًا: "لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه". لكن الحقيقة كانت أعمق من ذلك الحكم المتعجل. في لحظة خاطفة، ارتعشت روحه، واستشعر أنه لم يكن يحكم بين رجلين، بل كان يُختبر أمام الله. هل غفل عن العدل الكامل؟ هل تسرّع قلبه المؤمن بالحق في النطق قبل أن يُصغي لصوت الحكمة كاملةً؟.
فزع داوود، وانحنى راكعًا، يبكي بين يدي ربه، يستغفره، ليس من ظلمٍ اقترفه، بل من يقينٍ تسرّع، من قلبٍ نطق بالحكم قبل أن يتأمل أبعاده كلها. ذلك هو أعمق امتحان: أن تحكم ولا تنسى أنك في حضرة الله، وأن كل حكم تصدره، مهما بدا بسيطًا، هو في النهاية ميزان روحك أنت قبل أن يكون ميزان الآخرين.
داوود، نبي الله، لم يكن يواجه رجلين فحسب، بل كان في امتحان الروح. هل للعدل ميزان ثابت؟ أم أن للحق وجوهًا تتبدل؟ هكذا هي الحياة، تمتحننا حين نظن أننا على بينة، وتكشف لنا قصورنا لحظة يقيننا. فما الظلم إلا ظمأ لا يرتوي، وما التواضع إلا ماء الحياة، فطوبى لمن أدرك أن كل اختبار، هو باب للرجوع إلى الله.
في قصة آدم وإبليس، وكما في قوله تعالى: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ". كان إبليس يملك مكانة عظيمة بين الملائكة، لكنه طمع في ما ليس له، وأراد أن يكون فوق آدم، فكان هلاكه. الطمعُ، يا لمرارة هذا الداء الذي يُغشي البصيرة ويقود الأرواح إلى الهاوية، كأنه نهرٌ مالحٌ كلما شربت منه، ازددت ظمأً.
وكذلك في قصة موسى والخضر، حيث قال الله تعالى: "وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُۥ كَنزٌۭ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحًۭا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةًۭ مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُۥ عَنْ أَمْرِى ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًۭا". لم يدرك موسى عليه السلام الحكمةَ مما أقدم عليه الخضر من أفعال، فكان يُختبر في صبره وإدراكه للأقدار الإلهية التي قد تبدو ظالمة ظاهريًا لكنها عادلة في حقيقتها. هكذا هي الأقدار، كأنها نصٌ غامضٌ لا يُقرأ إلا بعد اكتماله.
وفي قصة قارون، نتأمل قوله سبحانه وتعالى: "فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ، قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا يَٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ. وَقَالَ الذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لمَنْ آمن وَعَمِلَ صَٰلِحًا، وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا لصابِرُونَ". قارون لم يكتفِ بثروته الهائلة، بل أراد أن يكون فوق قومه، فكانت نهايته عبرة لكل من يفتن بالمال والسلطة.
هكذا هي حكايات الطمع والعدل والاختبار، تُعاد في كل عصرٍ بأقنعةٍ جديدة، لكن جوهرها واحد. والإنسان في قلبها، كالسائر على حافة النهر، إن مال قليلًا، جرفه التيار. طوبى لمن أدرك أن العدل ليس في الحكم فقط، بل في خشية القلب، وأن الامتحان الأكبر ليس فيما نملك، بل في كيف نحمل ما نملكه دون أن نحني أرواحنا أمام فتنة القوة والثراء.
كل هذه القصص تتقاطع مع قصة داوود والنعاج، حيث يتكرر المشهد ذاته، يُختبر الإنسان أمام فتنة الطمع والقوة، فإما أن ينجو بالإيمان والعدل، وإما أن يسقط في هاوية الظلم والاستكبار.
منذ أول خطيئة، منذ أول امتحان للروح، والإنسان يظن أنه يرى، لكنه لا يبصر. كلما مُنح سلطة، اعتقد أنه العدل نفسه، وكلما زادت يده امتلاءً، ظن أن النقص لعنة تصيب غيره. لكنه لا يدري أن الامتحان لا يكون حين يُؤخذ منه، بل حين يُعطى.
في يوم داوود، لم يكن نبي الله أمام رجلين فحسب، بل كان أمام مرآة روحه. يحسب أنه يحكم بينهما، لكنه كان يحكم على نفسه، على بصيرته، على يقينه بعدالة الميزان الذي بين يديه. في لحظةٍ واحدة، ارتجفت روحه، كأنها تذكرت هشاشة الإنسان حين يظن أنه فوق الامتحان. فخرّ راكعًا، مستغفرًا لخفقان اليقين الذي تملّكه بعد فوات الأوان.
وفي يوم آدم وإبليس، لم يكن السقوط في المعصية، بل في الغرور. إبليس، ذلك المخلوق الذي أعمته أضواء مكانته، لم يحتمل أن يكون أحد أعلى منه، فاستكبر ورفض، فكان أول من عُلِّم درس الطمع، لكنه لم يتعلّمه. ومن يومها، لم يتوقف عن إغواء الآخرين بالسقوط ذاته، كأنما هو معلم الظلام في مدرسة النفس البشرية.
ثم كان يوم موسى والخضر، يوم ظن موسى أن العدل واضح كالشمس، أن الخير يُرى بالبصر لا بالبصيرة. لكن الخضر أدهشه بحقيقة أن العالم لا يُقرأ بالسطح، وأن العدل ليس دائمًا فيما يبدو عدلًا، بل فيما تخبئه يد القدر من حكمة لا تصبر عليها القلوب العجولة. وكأنما الحياة تخبرنا أن هناك عيونًا ترى، وعيونًا تبصر.
وجاء يوم قارون، ذلك الذي مشى متبخترًا بين قومه، يجرّ خلفه كنوزًا ظن أنها الخلود، فابتلعته الأرض قبل أن يفهم أن الغنى الحقيقي ليس في الذهب، بل في قلب لا تثقله الأرقام ولا تغريه السلطة. كانت نهايته درسًا صارخًا في وجه الذين يعتقدون أن الامتلاء يُغني الروح، فيما الحقيقة أن الروح تذبل كلما ازدادت يد الإنسان امتلاءً.
الأيام تتغير، لكن الفتنة واحدة، تدور حول الإنسان في حلقات متكررة، تختبره في الطمع والغرور والعدل والصبر. القليلون هم الذين لا تسكرهم القوة، القليلون هم الذين لا يخدعهم الامتلاء، القليلون هم الذين لا يطمعون في تسع وتسعين نعجة وهم يملكون واحدة. وما بين أول امتحان وآخر سقوط، يظل السؤال معلقًا في فضاء الحياة: هل العدل فيما نراه، أم فيما نخشى أن نبصره؟
وهكذا، يبقى الإنسان كائنًا ممتَحَنًا، تدور به أقداره بين القوة والضعف، بين العدالة والفتنة، بين الامتلاء والجوع الذي لا يرتوي. وما أشد حاجته إلى عينٍ ترى أبعد من شهواته، وقلبٍ لا يغريه بريق السلطة، وروحٍ تدرك أن الحق ليس كلمات تُقال، بل ميزان يُحمل بيدٍ راجفة من خشية الله. حين خرَّ داوود راكعًا، لم يكن سقوطه ضعفًا، بل كان ارتقاءً، كان وعيًا لحقيقة لا يدركها إلا القليل: أن الإنسان لا يُختبر حين يُسلب، بل حين يُعطى. وأن الظلم ليس دائمًا في السطو، بل أحيانًا في غفلة الحكم، في زهو القوة، في نشوة السيطرة. فيا أيها العابر بين أقدارك، لا تغتر بكثرة النعم، ولا تغفل وأنت تزن الأمور، فالعالم مملوء بالتسع والتسعين نعجة، وقليل هم الذين يقنعون بنعجتهم الواحدة.