في مثل هذا اليوم عام 2016م، رحل عن دنيانا الأستاذ محمد حسنين هيكل، الكاتب الصحفي والسياسي البارز والمعروف بـ"الأستاذ"، حيث كان أحد أشهر الصحفيين العرب والمصريين في القرن العشرين، وساهم في صياغة السياسة في مصر منذ فترة الملك فاروق حتى وفاته سنة 2016م.
موضوعات مقترحة
بدأ العمل في صاحبة الجلالة عام 1942م، وتولى رئاسة تحرير ومجلس إدارة مؤسسة الأهرام منذ عام 1957 وحتى عام 1974م، وينظر إليه باعتباره ثاني بناة مؤسسة الأهرام بعد مؤسسيها سليم وبشارة تكلا، أصبح من المقربين فيما بعد من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وظل من ألمع الصحفيين المصريين حتى اعتزل الكتابة المنتظمة والعمل الصحفي في 23 سبتمبر عام 2003 م، بعد أن أتم عامه الثمانين، لكنه ظل محللاً وراصدًا للأوضاع السياسية في مصر والعالم العربي وكانت آخر برامجه التلفزيونية "مصر أين ومصر إلى أين؟" حتى توفي عن عمر ناهز 93 عاما بعد صراع قصير مع المرض.
رحلة شاقة خاضها الأستاذ محمد حسنين هيكل، أهم صحفي مصري وعربي في القرن العشرين، تلك الرحلة التي جعلته يذهب لجبال درنكة بأسيوط؛ لتغطية وقائع تصفية خط الصعيد السفاح الأشهر فى تاريخ الجريمة في مصر، وبعدها بشهور بسيطة في ذات العام يتجه في رحلة إلي الدلتا، حيث قرية القرين بالشرقيةـ والتي تفشي فيها وباء الكوليرا الذي يصفه المؤرخون بالوباء العاشر في تاريخ مصر.
كان هيكل أصغر صحفي مصري، حيث كان يصل عمره لـ٢٠ عاما، وكان من قدره آنذاك أن يذهب من جبل بالصعيد، لجبل يضم مقابر الضحايا في الدلتا أيضا.
وتنشر بوابة الأهرام قراءة في صحافة عام ١٩٤٧م، وهو العام الذي خاض فيه الصحفي الأستاذ محمد حسنين هيكل، رحلته ومغامراته الصحفية التي تُوجت بجائزة ذهبية لتغطيته البديعة لوباء القرين الذي تفشي في القرية وامتد لكافة عموم مصر، ومن ثم كانت تغطية الوباء في كافة الصحف والمجلات الصادرة آنذاك.
وقد التحق محمد حسنين هيكل بعالم الصحافة في عام 1942م، حيث بدأ مسيرته بصحافة الحوادث، وبعد ٥ سنوات من التحاقه، شغلت قضية سفاح الصعيد الرأي العام المصري، وكان السفاح يُدعي محمد منصور وظهر فى درنكة بأسيوط، وقد زادت جرائمه كثيرا، وقد قام الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل بعمل تحقيق صحفى عن "خُط الصعيد" في مجلة "آخر ساعة" في شهر أغسطس عام 1947م، بعد تصفية الخط، واستطاع أن يأخذ تصريحات مهمة من والدة السفاح وتدعي فضة.
وقبل أن يخوض هيكل رحلته لجبال أسيوط، انتشرت حكاية المجرم، كان بندر أسيوط في ذلك الوقت مختلف عما حوله من قري ونجوع، حيث انتشرت المقاهي التي كانت تقدم خدمات فنية، فضلا عن المسارح، التي قدمت مسرحية هاملت، بينما قامت الصحافة الثقافية برصد احتفالات اليوبيل الذهبي للمدرسة الثانوية، والتي حوت أسماء الطلاب، وكان عددهم 130 طالبا في عام ١٩٤٧م، كما احتفت بأول مطبعة ظهرت في أسيوط في القرن التاسع عشر.
وتقول الصحف احترف محمد منصور القتل، حيث أودى بحياة 70 رجلا في بلدة ديروط بأسيوط، وبعدها استوطن الجبل، والتف حوله المجرمون والمطاريد ليكون عصابة تنشر الرعب والخوف في نفوس الناس، وقد فرضوا الإتاوات، وسخروا من الشرطة والحكومة، وكانوا يسطون على القطارات دون خوف، وتم وضع خطة للإيقاع به من قبل الحكومة، حيث سقط قتيلا على يد العمدة والخفراء في معركة أسقطت 600 قتيل جعلته يأخذ لقب أشهر سفاح، ويتم وضعه في كتب ودراسات وروايات.
وقد جسدته السينما في فيلم شهير اسمه "الوحش" بطولة الفنان محمود المليجي وأنور وجدي وآخرين، وقد كانت تغطية هيكل للمجرم بعد تصفية السفاح هي بداية حقيقية لسطوع نجمه في عالم الصحافة، حيث قضي هيكل سنوات من عمره محررا بجريدة "الإيجيبشيان جازيت" لصاحبها هارولد إيرل، إلا إن نجم هيكل صعد من خلال تغطيته عن خط الصعيد في عام ١٩٤٧م، والتي نشرها في مجلة "آخر ساعة" التي أسسها محمد التابعي، وبعدها بأشهر كان عليه أن يخوض رحلة ومغامرة صحفية عن وباء الكوليرا في قرية القرين بالشرقية (مركز أبو حماد) التي لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها؛ خوفا من تفشي الوباء فيها.
يفتتح هيكل تقريره المنشور في مجلة آخر ساعة عام 1947م بلغة عذبة مدهشة قائلا:"على رؤوس النخيل، وبين الأكواخ المظلمة المتداعية، وعلى شواطئ الترع والغدران، وفى الوديان وفوق رمال الصحراء يسعى ميكروب الكوليرا في قرية القرين، ويجر في أنيابه الموت أينما ذهب" مؤكدا أنه حين تفشي وباء الكوليرا انتشر بادئ الأمر بين عمال الجيش الغرباء كان الفلاحون من أصحاب البيوت يخافون التبليغ عن الإصابات؛ خيفة أن يُعزلوا هم الآخرون.. ويموت "الغريب" وليس هناك من يسأل عنه.. ويحمله أهل البيت إلى الجبل فيدفنونه ويعودون فإذا سئلوا عنه في الغد قالوا: لقد فر من القرين.. متى؟.. قبل الوباء".
صحف ومجلات عام ١٩٤٧م قامت بتغطية الوباء بشكل مركزي، وحملت المجلات غلاف مجهودات مبرة محمد علي، أما البعض فحمل أغلفة اكتساح الكوليرا وزيارة وفد الصحة العالمية، وتغطية محاربة الذباب، وبعضهم تكلم عن قيام إسماعيل صدقي باشا بالسفر إلي طنطا بالقطار واجتماعه مع أعيان الغربية بدار المديرية للتبرع لمنكوبي الكوليرا، وقد أراد إسماعيل صدقي السفر بالسيارة بدلا من القطار؛ خوفًا من العدوى، ولكن صديقه الحميم عبدالرحمن البيلى بك، أكد له أن القطار تم تطهيره، وأنه مستعد للسفر معه.
الأستاذ هيكل الذي أراد أن يُقدم صورة مغايرة عز الجميع تحدث بلغة عذبة كعادته عن شخصية بيومي، ذلك الشخص الذي وصفه هيكل أنه يقوم بدور بطولي في التبخير، وكيف أن بيومي فوجئ بوفاة أخيه فقام بدفنه ثم واصل عمله في التبخير، يقول هيكل في تقريره "حدث أن فاحت من الجبل روائح خبيثة، وذهب بعض المستطلعين وعادوا يقولون إن هناك جثثا، ويظهر أن الذين قاموا بدفنها كانوا في عجلة من أمرهم فدفنوها على بعد قريب من سطح الأرض، وأعلن عمد القرية – وفي القرين أكثر من عمدة- أنهم يتبرعون لإقامة مقابر للغرباء وحدهم.. هؤلاء الذين لا أهل لهم ولا أحباب يبكون عليهم ويحزنون لأجلهم".
صحافة ١٩٤٧م ذهبت لمستشفى العباسية، لكنها لم تقدم زاوية إنسانية من لحم وشحم، مثل تقرير هيكل، حيث بدأت مثلما وضعت في غلافها سيدات مبرة محمد على ومكافحة الكوليرا بالتطعيم والمال والملبس وكذلك الصابون، ثم انتقلت إلى المصابين من الطيارين الذي نظموا سرب فاروق للحرب على الذباب، وبطولة الطيارين المصريين في رش القاهرة، ثم انتقلت إلى الوفود الأجنبية التي قدمت مساعداتها لمصر، ثم قدمت عالم المستشفى من حيث الأطباء، وتجارب استخراج اللقاح من الأرانب، وتصوير جرثومة الكوليرا، ثم صورة لمجهودات الأطباء والمتطوعين.
ينقلنا الأستاذ هيكل لمستشفى القرين "وهي خيام الإيواء" طبيب المستشفى الشاب يخرج من خيام المرضى، ويطلب من إحدى الممرضات أن تربط له يديه حتى لا يصافح أحدا.. ويقابلك وهو يضحك ويمد يديه المربوطتين ويقول: لا فائدة غير هذا.. قد أنسى وأسلم على أحد.. والله وحده يعلم ماذا في يدى.. ثم ترتفع ضحكته مرة أخرى ويقول: كوليرا.. ثم تلمح سربا من الفتيات الصغيرات المجاهدات.. إنهن الممرضات اللواتي يكافحن الوباء" ثم ينقلنا إلى معتقدات أهالي القرية في الاعتقاد بأن الشيخة حميدة تحميهم من الكوليرا، وينقلنا لتصوير شخصيات إنسانية وقت الوباء.
انشغلت الصحف المركزية بالبعثة الأمريكية، ومجهودات الجنس اللطيف في مواجهة وباء الكوليرا، ثم تصريحات مع كريمة الخديو عباس حلمي الثاني التي قدمت مصر مع البعثة التركية، وهجوم الصحف المصرية على تركيا التي كانت آخر الوفود الأجنبية التي قدمت مساعدات في وباء الكوليرا، وتقاعس تركيا عن مد يد العون، وقدمت الصحف عملها اليومي في المكافحة، وعملها كممرضة، ثم قدمت صورة سيدات السلك الدبلوماسي للمساعدة في مواجهة في الوباء، كما قدمت تبرعات رجال الاقتصاد والأعمال مثل محلات شيكوريل التي قدمت إعانة للمنكوبين تقدر بمبلغ ١٠٠٠ جنيه ، ثم قدمت كيفية إقناع الفلاحين والبسطاء في المحافظات بأخذ اللقاح ، وتعريفهم بالاحتياطات الصحية، كما قدمت تبرعات الهلال الأحمر والجمعيات الخيرية حيث تم جمع مبلغ ١٠ آلاف جنيه للمنكوبين.
استمر الأستاذ هيكل يصنع شخصياته الخالدة في قرية القرين التي كانت مشهورة بزراعات النخيل ، حيث هيكل في القرين أو صنع منها بلغته العذبة شخصيات لن تنسي ، مثل: الفتيات العاشقات للعمال وهلعهن، وذلك المعلم الفيلسوف الذي حبس نفسه في منزله مفكرا يف الجذور التاريخية لاسم القرين، حيث يخرج الفيلسوف من عزلته ليعلن للملأ اكتشافه بأن السلطان قايتباي زارها، وقد لاحظ قايتباي نخلتين متعانقتين مثل القرين، أما المزارات التي رصدها هيكل، فكانت عديدة جدا في القرية منها مقابر الجبل.
نال محمد حسنين هيكل جائزة عن تحقيق القرين جائزة تسلمها من الملك فاروق الأول ، ومن هنا بدأ هيكل يقترب من السلطة والوزراء في مصر، حيث انتقل من صحفي محلي لصحفي يصنع الصحافة ويصيغها، وكان تحقيقه عن وباء القرين ومازال درة وأيقونة الصحافة المحلية الشاملة التي تقدم صحافة جديدة لم تكن من قبل مطروقة وموجودة فى الصحافة المحلية، وخاصة في سرد اللغة التي قدمت صورة للشخصيات الإنسانية فى ظل وباء كاسح حصد آلاف الأرواح وأصاب الجميع بالفزع.