إذا كنت تبحث عن نموذجٍ مثاليٍّ لسياسةٍ تجمع بين التناقضات، وتُقدّم الفوضى على أنها نظام، وتُزيّن العبث بلمساتٍ من العبقرية، فلا تنظر بعيدًا عن الولايات المتحدة الأمريكية. فهي، وبكل فخر، تقدم لنا عرضًا سياسيًّا لا يتوقف عن إبهارنا بقدرته على تحويل الكوارث إلى "إنجازات"، والمآسي إلى "فرص".
لنبدأ بالسياسة الخارجية، تلك الساحة الواسعة التي تتحول فيها الولايات المتحدة الأمريكية إلى "فنانة أداء" تقدم عروضًا لا تُنسى. من العراق إلى أفغانستان، ومن فيتنام إلى ليبيا، تترك أمريكا وراءها إرثًا من الديمقراطية المزعومة، التي غالبًا ما تأتي مصحوبةً بأنهارٍ من الدماء وأنقاضٍ لا تُحصى. لكن لا تقلق، فالإعلام الأمريكي بارعٌ في تحويل هذه الكوارث إلى قصص نجاح، أو على الأقل إلى "دروس مستفادة" يجب أن نتعلمها جميعًا.
أما على الصعيد الداخلي، فإن السياسة الأمريكية تُقدّم لنا نموذجًا فريدًا من "الديمقراطية" التي تعمل لصالح الأغنياء، بينما تُقدّم للفقراء وعودًا تتبخر مع كل دورة انتخابية. النظام الصحي، على سبيل المثال، هو أحد أعظم إنجازات الرأسمالية الأمريكية: حيث يمكنك أن تموت بسبب دينٍ طبيٍّ بينما تُحاط بأحدث التقنيات الطبية في العالم. والحديث عن التعليم؟ لا تقلق، فبإمكانك الاقتراض لتمويل دراستك، لتبدأ حياتك العملية مثقلًا بالديون، وهو ما يُعتبر "حافزًا" لتحقيق النجاح!
ولا ننسي النظام السياسي نفسه، حيث تُدار اللعبة بين حزبين يتنافسان على السلطة، لكنهما يتفقان على شيء واحد: إبقاء الوضع القائم كما هو. الانتخابات الأمريكية هي أشبه بمسرحيةٍ ضخمة، حيث تُنفق المليارات على الحملات الإعلانية، بينما تُهمش القضايا الحقيقية لصالح الخطابات الرنانة والشعارات الجوفاء.
لكن ربما تكون السياسة الأمريكية في أوج عبقريتها عندما يتعلق الأمر بخلق الأعداء. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان لا بد من إيجاد عدو جديد لتحفيز الاقتصاد عبر الإنفاق العسكري. وهكذا، تحول الإرهاب إلى العدو الجديد، ثم تلته الصين، وروسيا، وأحيانًا حتى حلفاؤها القدامى. أمريكا تعرف كيف تُبقي العالم في حالة توتر، لأن السلام، بكل بساطة، ليس مربحًا.
صناعة الأزمات
التاريخ الحديث يشهد العديد من الحالات التي ساهمت فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر أو غير مباشر في صناعة الأزمات الدولية. هذه الأزمات تتراوح بين الصراعات المسلحة والتدخلات العسكرية، والضغوط الاقتصادية، وحتى الدعم للأنظمة الاستبدادية في بعض الأحيان.
من أبرز الأمثلة على دور الولايات المتحدة في صناعة الأزمات هي التدخلات العسكرية المباشرة في مناطق مختلفة من العالم، حرب العراق عام 2003، على سبيل المثال، كانت نقطة تحول كبيرة في الشرق الأوسط. بذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل (وهو ما تبين لاحقًا أنه غير صحيح)، غزت الولايات المتحدة العراق وأطاحت بالرئيس صدام حسين ونظامه. نتج عن ذلك فراغ سياسي وأمني أدى إلى تفجير الصراعات الطائفية وتصاعد العنف، ما أسفر عن مئات الآلاف من الضحايا وتشريد الملايين. كما أن هذه الحرب ساهمت في ظهور تنظيمات إرهابية مثل "داعش"، التي استغلت الفراغ الأمني لتوسيع نفوذها.
وفي بعض الحالات، دعمت الولايات المتحدة أنظمة استبدادية لقمع المعارضة والحفاظ على مصالحها الإستراتيجية. خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة العديد من الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، بدعوى محاربة المد الشيوعي. هذا الدعم أدى إلى قمع الحريات وحقوق الإنسان في تلك الدول، وتأجيج الصراعات الداخلية. في إيران، على سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة نظام الشاه حتى ثورة 1979، ما أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين لسنوات طويلة.
تلجأ الولايات المتحدة أيضًا إلى استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة للضغط على الدول التي تعتبرها معادية لمصالحها. ومع أن هذه العقوبات تهدف في كثير من الأحيان إلى تغيير سلوك الأنظمة، إلا أنها غالبًا ما تؤثر بشكل كبير على الشعوب، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية. العقوبات المفروضة على فنزويلا، على سبيل المثال، أدت إلى تدهور الاقتصاد وزيادة معاناة المواطنين، دون تحقيق تغيير سياسي حقيقي.
تشير العديد من التقارير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بتدخلات في الشئون الداخلية للدول عبر دعم أو تمويل جماعات معارضة. في أمريكا اللاتينية، مثلًا، كانت الولايات المتحدة متورطة في انقلاب تشيلي عام 1973 الذي أطاح بالرئيس المنتخب سلفادور أليندي. هذا التدخل أدى إلى عقود من الحكم الديكتاتوري تحت قيادة بينوشيه، والذي تميز بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
تلعب الولايات المتحدة أيضًا دورًا في الأزمات البيئية العالمية، كونها واحدة من أكبر الدول المنتجة للانبعاثات الكربونية، رغم الجهود الدولية للحد من تغير المناخ، فإن سياسات الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب تعيق التقدم في هذا المجال، خاصة بسبب انسحابها من اتفاقيات دولية مثل اتفاقية باريس للمناخ.
في النهاية، يمكننا أن ننظر إلى السياسة الأمريكية على أنها مسرحيةٌ عظيمة، مليئة بالمفارقات والتناقضات، هي سياسةٌ تقدم لنا دروسًا في كيفية تحويل الفشل إلى نجاح، والحرب إلى سلام، والعبث إلى نظام. وإذا كنت لا تفهمها، فلا تقلق، فأنت لست وحدك، حتى الأمريكيون أنفسهم يعيشون في حيرةٍ من أمرهم، بينما يستمر العرض في التقدم، بلا توقف، وبلا نهاية واضحة.
فهل هي عبقرية أم عبث؟ ربما تكون الإجابة: كلاهما!
[email protected]