ريفيرا غزة ومثيلتها "المشئومة" بكوريا الشمالية

15-2-2025 | 13:22

ضمن العديد من برقيات الإدانة، نددت بيونج يانج بفكرة السيطرة الأمريكية على غزة، وتهجير سكانها، مؤكدة أن المسألة-في حالة إتمامها لا قدر الله- لن تقتصر على القطاع؛ في إشارة إلى إمكانية تعرض شواطئ كوريا الشمالية -نفسها- وغيرها من مناطق وبلدان العالم لفكرة الاستحواذ، المسيطرة على تفكير الإدارة الأمريكية.

شتان بين ما أثاره الرئيس ترامب حول سعيه للسيطرة على قطاع غزة الفلسطيني، وتحويله إلى ما أسماه بـ"ريفيرا الشرق الأوسط"، وبين ما عرضه- في سابق الدهر والأوان- على الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونج أون، بتحويل شواطئ بلاده إلى منتجعات سياحية، مليئة بالفنادق والشقق السكنية، لجذب السياح اليابانيين والصينيين للاستمتاع بسحر الشمال(!!)، وذلك إذا تخلى -الأخير- عن ترسانته من الأسلحة النووية والصاروخية، وإن كان المصير المحتوم لمآل العرضين هو الفشل.

بالمصادفة، كنت أطالع آخر التطورات الأمنية والسياسية في شبه الجزيرة الكورية، وتوقفت أمام مقال نشرته صحيفة التليغراف البريطانية لمستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، جون بولتون، وجاء فيه نصًا: "إن فكرة السيطرة الأمريكية على غزة، وتحويلها إلى ريفيرا الشرق الأوسط، تفتقر إلى رؤية سياسية وإستراتيجية واضحة، مشبهًا إياها باقتراح سابق قدمه ترامب لـ كيم، حول إمكانية تحويل شواطئ كوريا الشمالية "النووية" إلى منتجعات سياحية، ومثل هذا الطرح -رغم عبثيته- سوف يصبح أكثر خطورة في غزة، بسبب الظروف الأمنية المتدهورة".

اللغة التي استخدمها ترامب في تقديم العرضين بدت مختلفة تمامًا، حيث بدا الرجل لينًا ودودًا -لأقصى الدرجات- مع كيم، وقوله، نصًا: "لقد أحبني.. لقد أحببته"، وهو يسعى لاستمالة الأخير بتحويل شواطئه إلى منتجعات سياحية، وبدون أي تلميحات لتهجير وطرد سكان الشطر الشمالي في شبه الجزيرة الكورية، مع وصف بيونج يانج -لأول مرة وفي سابقة غير مبررة وخارجة على النص- بأنها قوة نووية!

أما فيما يتعلق بـ ريفيرا غزة، فقد كشر ترامب عن أنيابه، وفتح أبواب الجحيم وبئس المصير، ضد الأشقاء الفلسطينيين، مستخدمًا أوصافًا إرهابية، ومتوعدًا بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يتجرأ في معارضة أفكاره النيرة، إلى حد البلطجة وانعدام الضمير، بحجة أن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العرب، وبدون أن يرمش له جفن، نتيجة لما تعرضت له غزة من جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي!!

اللافت أن وجهة نظر بولتون حول ريفيرا غزة وكوريا توافقت مع رؤية الكاتب الأمريكي الشهير توماس فريدمان، الذي أشار في مقال أخير، نشرته صحيفة نيويورك تايمز، إلى أن مقترح ترامب هو الأكثر غباءً وخطورةً من رئيس أمريكي.

لن أشغل القارئ في سرد التفاصيل وردود الفعل، التي تلقاها ترامب، نتيجة لعرضه المشئوم بشأن ريفيرا غزة، وهناك من هم أفضل مني باعا -وإلمامًا- وانتقادًا للرجل، وأعود سريعًا إلى تحديث آخر ما وصلت إليه المواجهة في شبه الجزيرة الكورية.

كوريا الشمالية، بحكم خبرتها في التعامل مع الرئيس الأمريكي منذ ولايته الأولى، بدت وكأنها تجيد قواعد الاشتباك معه، وكلنا يذكر كيف هددها ترامب -بداية- بمحوها من خريطة العالم، إن لم تنصع لأوامره، وكيف تراجعت سياساته 180 درجة، في قمم ثلاث جمعته مع كيم، مما تسبب في إرباك الوضع الأمني والسياسي الإقليمي.

لذلك، تنتهز بيونج يانج فرصة بدء الولاية الجديدة للرئيس الأمريكي لاختبار إرادته التصالحية -التي لم يتوقف عن ترديدها حتى قبل تنصيبه- بتوظيف آلة الخطاب العدائي العنيفة، على شاكلة ما استخدمه ترامب -نفسه- معها مسبقًا، بالإضافة إلى مضاعفة جهودها لتطوير أسلحتها، وصولًا لامتلاك الغواصات النووية، وأقمار التجسس، والصواريخ الباليستية، العابرة للقارات، التي تعمل بالوقود الصلب.

أيضا، ضاعفت بيونج يانج من معدلات شراكتها الإستراتيجية الشاملة مع موسكو، وتحديدًا، في مجال التعاون الأمني والعسكري، لدرجة تسريب معلومات مفادها أن كوريا الشمالية زودت روسيا -في عمليتها العسكرية بأوكرانيا- بنحو 200 قطعة مدفعية بعيدة المدى، وكمية كبيرة من الذخيرة، فضلا عن إرسال 11 ألف جندي كوري شمالي، يعتقد أن 300 منهم قتلوا في المعارك فيما أصيب 2700 آخرين.

كل ذلك، في مقابل قيام روسيا بتزويد كوريا الشمالية بتكنولوجيا للغواصات النووية، وأخرى خاصة بإعادة دخول الصواريخ الباليستية -العابرة للقارات- للغلاف الجوي.

التهديدات والمفردات العدائية التي استخدمتها بيونج يانج -حتى ولو وردت من باب جس النبض لإرادة واشنطن التصالحية- مصحوبة بإطلاق الصواريخ الباليستية قصيرة وطويلة المدى، وصواريخ الكروز، وإرسال الجنود لدعم روسيا في حرب أوكرانيا، كل هذه التطورات المتسارعة، تسببت في شيوع حالة من الاحتقان والتوتر الأمني بمنطقة شمال شرق أسيا، مماثلة -بالضبط- لما نشهده في منطقتنا.

وقياسًا على المثل المصري القائل: "العيار إللي ما يصيب يدوش"، استنفرت سول وواشنطن وطوكيو جاهزيتها القتالية، وتعاونها الأمني الوثيق، في مواجهة تهديدات واستفزازات بيونج يانج الأخيرة، ووصل الحال بهم إلى توجيه الأوامر من الرئيس الكوري الجنوبي المؤقت، تشوي سانج-موك، لجميع الوكالات الحكومية -بما في ذلك الجيش والشرطة- بتنسيق الجهود والرد الفوري على استفزازات كوريا الشمالية، وعدم الخضوع لليأس، نتيجة للوضع السياسي الفوضوي الحالي بالبلاد.

في الوقت نفسه، أجرت البحريتان الكورية الجنوبية والأمريكية تدريبات عسكرية، بالقرب من حدود الكوريتين، أيضًا وفي هذه الأثناء، رست غواصة أمريكية تعمل بالطاقة النووية في قاعدة بحرية بكوريا الجنوبية، بهدف تعزيز التعاون الدفاعي بين الجيشين.

كل هذه الحشود والتحركات العدائية المتبادلة، أثارت ثائرة بيونج يانج، ووصفتها بأنها "تعبير عن هستيريا أمريكية للمواجهة مع كوريا الشمالية".

هكذا يبدو المشهد المحتقن جدا في شبه الجزيرة الكورية، وفي منطقة شمال شرق أسيا عمومًا، بفعل التهديدات والاستفزازات الشمالية، حتى وإن جاءت في شكل الاختبار للإرادة التصالحية -المملة- التي يعرضها الرئيس ترامب -بإلحاح- على الزعيم كيم، وإذا كانت عروضه السخية لإقامة منتجعات سياحية على طول الساحل الشرقي لكوريا الشمالية قد ذهبت مع الرياح، فهل تلحق بها -بدعة- ريفيرا غزة؟!

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة