روسيا ما زالت تبدو بعيدة، وربما محيرة للبعض الذي يتابع سلوك موسكو في ظل الرجل القوي فلاديمير بوتين، ومما يثير دهشة المراقبين هو عدم حسم الحرب مع أوكرانيا، وحرص القيادة الروسية على إبقاء الباب مفتوحًا مع الولايات المتحدة وأوروبا، وعلاقة ملتبسة مع تركيا وإيران وإسرائيل والدول العربية، ورغم كل العلاقة الوثيقة مع نظام الأسد الأب والابن، فقد طوت الصفحة وتركت بشار الأسد يسقط، وتحاول بقوة الآن إعادة التموضع، وبدء صفحة جديدة مع الميليشيات التي كانت تحاربها، وتضعها على لائحة الإرهاب، وأحسب أن سلوك موسكو مثير للتساؤلات الكثيرة.
لقد بدأت الحرب الروسية - الأوكرانية في فبراير 2022، ومع هذه الحرب الجديدة، نشأ مناخ نقاش أيديولوجي داخل روسيا، واليوم، على مستوى العالم، مرت وما زالت تمر بأيام مشابهة للعملية التي وصفها جون ريد في كتابه "عشرة أيام هزت العالم"، وتقع روسيا في قلب هذا التشنج.
ويقدم الخبير في الشئون الروسية أونور سنان غوزالتان، رؤية مفصلة لما يدور في روسيا، وذلك من خلال كتابه "الحرب في بستان الكرز – إلى أين تتجه روسيا؟"، ويؤكد غوزالتان أن المجتمع الروسي ما زال يواصل مناقشة الحرب المستمرة بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا، وحالة الاقتصاد بعد العقوبات الغربية، وأنشطة روسيا في سوريا والشرق الأوسط، وزيادة إضفاء الطابع المؤسسي على مجموعة البريكس، وتعميق التعاون بين الصين وروسيا، ومستقبل العلاقات التركية الروسية.
ويقدم الكاتب شهادات مهمة مع كبار المفكرين والسياسيين ورجال الدين والصحفيين في روسيا، ومن بين هذه الأسماء الخبير الاقتصادي سيرجي جلازييف الذي كان مستشارًا اقتصاديًا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لسنوات عديدة، ويعمل الآن على العملة الجديدة التي تخطط مجموعة البريكس لإصدارها، وسيرجي ميرونوف، وهو رئيس الجمعية الفيدرالية الروسية الأطول خدمة، وهو الآن رئيس حزب روسيا العادلة، وديمتري نوفيكوف، نائب رئيس الحزب الشيوعي الروسي، وستيفان إيجومنوف وهو المسئول عن العلاقات الخارجية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والمفكر الروسي ألكسندر دوغين الذي أثارت أفكاره جدلًا كبيرًا في العالم.
ويبدي غوزالتان عددًا من الملاحظات المثيرة للاهتمام منها:
- بداية عن محاولة الانقلاب الفاشلة من قبل مجموعة فاجنر يقول الكاتب: "صراحة لم أشهد أي ذعر أو اضطراب في الحياة اليومية، في هذه المرحلة، كان صبر المجتمع الروسي وسلوكه الحذر مفاجئًا حقًا، وصلتنا أنباء عما يحدث في قضية فاغنر عند منتصف الليل، وفجأة بدأت هواتف الناس بالرنين، لقد جلست هناك ولاحظت سلوكهم".
ويضيف غوزالتان ، "تخيل أن هناك حديثًا عن محاولة انقلاب في البلاد، وعادة، تتوقع أن الناس يركضون في حالة ذعر ويصرخون، ولكن واصلت الغالبية العظمى القيام بكل ما كانوا يفعلونه دون أن يفقدوا رباطة جأشهم، بالطبع عادت أقلية صغيرة بسرعة إلى المنزل، وفي اليوم التالي، لم تكن هناك طوابير في الأسواق أو ذعر في الشوارع، وهذا يدل على أن الروس أمة اعتادت على الحرب والمواقف الاستثنائية".
ومن ناحية أخرى، يرصد الكاتب غوزالتان ملاحظة مهمة فيما يتعلق بالاقتصاد بقوله: "يمكننا القول إن الاتجاه للابتعاد عن النظام الاقتصادي المتمركز في الغرب يتزايد في روسيا"، وهو الأمر الذي وضح من مقابلة طويلة مع سيرجي جلازييف، الذي كان المستشار الاقتصادي لبوتين لسنوات عديدة، وسبق ذكر جلازييف باعتباره الاسم وراء العملة الجديدة، والتي من المتوقع أن تطلقها مجموعة البريكس، والتي يُزعم أنها بديل للدولار.
وهنا يظل السؤال مطروحًا بقوة: هل ستكون روسيا قادرة على خلق نموذج اقتصادي بديل للغرب؟
وفي الوقت نفسه يبدي الكاتب أهم ملاحظاته وهي "أن روسيا التي خضعت لتأثير الغرب اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، عادت وجهًا لوجه مع الغرب من جديد، وبطبيعة الحال، أدى هذا الوضع إلى تسريع البحث المستمر عن اتجاه جديد داخل البلاد، والأمر الآخر أن الأوراسيين، والقوميين، والشيوعيين، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية، هم قوى تلعب دورًا مهمًا في بحث روسيا عن الاتجاه الجديد".
ويبقى أن روسيا في لحظة فارقة من تاريخها، وهي تبحث عن طريقها، ومن أبرز من يساعد قادة الكرملين في النهوض لروسيا من جديد المفكر ألكسندر دوغين، والذي سبق أن تنبأ بأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا "حتمية"، ودعا الرئيس فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في شرق أوكرانيا "لإنقاذ السلطة الأخلاقية لروسيا"، كما وُصف بأنه العقل المدبر وراء ضم بوتين لشبه جزيرة القرم.
وأعلن أن الخطوة التالية هي التدخل العسكري في شرق أوكرانيا، والذي يسميه بانتظام نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، وهو تعبير استخدمه بوتين أيضا، وكان دوغين يعتقد أن "الروح الروسية" قد أيقظها الكفاح الانفصالي هناك، والذي أطلق عليه اسم "الربيع الروسي"، ويعتقد دوغين أن روسيا تمثل قطبًا مهمًا في هذا العالم المتعدد الأقطاب، ويرى صاحب النظرية الأوروآسيوية، أن روسيا يجب أن تقود الاتحاد الأوروآسيوي، لذلك أسس الحركة الأوروآسيوية الدولية لتحقيق هذا الهدف، وهو يرى أن خصم هذا الاتحاد الأوروآسيوي "القاري" ليس الولايات المتحدة، وإنما "حلف شمال الأطلسي" وهو التحالف العسكري الذي أسسته 12 دولة، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا، في عام 1949.
ويعتبر دوغين أن التاريخ يدور حول الصراع بين القوى على مستوى امتلاك النفوذ البحري والقاري، ويرى أن فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة عام 2016 جاء بمثابة انتصار على التوجه العالمي الذي مثلته هيلاري كلينتون، وبمثابة ثورة من قبل الشعب الأمريكي ضد التوجه العالمي.
إلا أن الأمر المؤكد هو أن روسيا حتى الآن تنتهج سياسة براجماتية خالصة، وتعلي مصالح دولتها الوطنية فوق أي اعتبارات أيديولوجية، ولعل ما يجمع قطاعات عريضة من النخبة الحاكمة هو الاعتزاز بالوطن، ومصالحه، والإحساس بالهوية الروسية.
ومن هنا يبدو أن علينا أن ندرك أن روسيا الشيوعية الأممية لم تعد موجودة، وأن رؤية الاتحاد السوفيتي في التعامل السخي مع الحلفاء، والأصدقاء قد انتهت، وأن روسيا تحكم علاقاتها بالمصالح والشراكات المؤقتة، وليست في حاجة إلى "زبائن مكلفين"، وربما يفسر هذا تعاملها مع الأسد، ومن قبله صدام حسين، وعدم رغبتها في الصدام مع ترامب.
ويطرح سؤالًا كبيرًا حول علاقتها مع الصين: "ترى هل هي تحالف أم شراكة"؟
وتبقى الأيام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.