كثير هم من درسوا أحداث التاريخ الإسلامي عبر فتراته المختلفة، وقليل هم من وقفوا على فلسفة التاريخ لتلك الأحداث وفقًا لقراءة جديدة لمسار الفكر السياسي للعالم الإسلامي من خلال النظم الإسلامية وما تحويه من دلالات وإشارات تاريخية وفكرية، في محاولة لفهم الصحيح لنظم الإسلام السياسي وفقا للغة الإسلام الخاصة، لا سيما أن الصور النمطية التي يتبناها الغرب عن الإسلام وحضارته ستظل قاصرة وخاطئة إذا ظلوا ينظرون إلى الإسلام من خلال نظمهم الغربية التي تختلف كلية عن الحضارة الإسلامية.
موضوعات مقترحة
الأستاذ الدكتور عادل يحيي عبد المنعم كان من بين هؤلاء القلائل الذين أدركوا تلك الحقيقة فطبقها وبثها في العديد من مؤلفاته التاريخية القيمة التي يرى فيها أن الحضارة الإسلامية عبر فتراتها التاريخية لابد دراستها بزوايا فلسفية ونفسية واجتماعية للوعي بأحداث الماضي وقراءة الحاضر وصناعة المستقبل.
كانت تلك الرؤي والنظريات حاضرة في الكتاب الجديد للدكتور عادل يحيي، والصادر عن دار الآفاق العربية، والذي يحمل عنوان (الفكـر السياسي في المغرب والأندلس.. سلوانات الفقهاء والعلماء في نصح الحكام والأمراء)، والذي شارك به مؤخرًا في معرض القاهرة الدولي للكتاب في نسخت الأخيرة التي انعقدت خلال الشهر الجاري.
يطرح الدكتور عادل يحيي في هذا الكتاب قراءة جديدة لمسار الفكر السياسي للعالم الإسلامي في المغرب والأندلس عبر آراء كبار فقهاء الأدب السياسي أمثال ابن حزم والحميدي والحضرمي وابن ظفر الصقلي وابن رضوان المالقي، وقد قُدر لهؤلاء الرهط من العلماء الموسوعيين أن يشهدوا ويروا النكبات السياسية والحضارية التي عصفت بأوطانهم، فرأوا أن رسالتهم تقتضي تقديم النصح للخاصة والعامة، للحكام والرعية كي تنهض الأمة من كبوتها وتعلو رايتها من جديد.
لقد أراد الدكتور عادل يحيي من هذا الكتاب إرسال رسالة جديدة مفادها أن العالم الإسلامي مثل الكثير من الأمم، له نظمه السياسية الخاصة التي لا يُمكن فهمها بعيدًا عن لغته الفكرية ومسيرته التاريخية، فمن أراد أن يكتشف دهاليز السياسة ومراكز صناعة القرار هناك ما عليه إلا أن يقوم بفتح القاموس الكبير للغة الإسلام السياسي، لذا فالكتاب فرصة حقيقية للمهتمين بدراسة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، فضلاً عن الدبلوماسيين والباحثين في مجال الدراسات الاستشراقية، والسياسيين ودعاة الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان.
بالنسبة للدكتور عادل يحيي، فقد حاول في كتاباته المتتالية إثبات أن الإسلام كرسالة دينية أحدث ثورة كبرى وآثارًا هائلة في البلدان التي انضوت تحت رايته بل لم تقف عند حدوده الممتده من الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا، فواصل تأثيره في أمم شتي وحضارات مختلفة، وطرح علماء الحضارة الإسلامية رؤي إصلاحية للمستقبل تستند على الإسلام، وهذا ما يفتح المجال لدراسة نظم الإسلام السياسي، ومن هنا تمتع الإسلام بعلاقة وطيدة مع الدولة وأصبح المصدر الأول لهوية الأمة.
وعلى عكس أوروبا التي فصلت الكنيسة عن الدولة، تمتع الإسلام بصلات وطيدة مع السلطة، فالإسلام هو المصدر الأول للتشريع، وهذا يستوجب النظر حول القوة الثورية التي يتمتع بها الإسلام السياسي، حيث يمثل الإسلام المعيار الأساسي للهوية بالنسبة للدول الإسلامية فسُلطة الدين هي السُلطة الوحيدة التي يقبلها المسلمون ويلتفون حولها؛ ولهذا سعت السلطات الحاكمة أن تجعل من الإسلام مرجعيتها لتحقيق توافق سياسي واسع الانتشار، وإرساء منظومة سياسية فاعلة تتمتع بالطابع الجماهيري.
استندت لغة الإسلام السياسي،على القرآن والسنة وهما أصل الإسلام وقاعدته، فضلا عن مؤثرات حضارية أخرى من الأمم التي احتك بها المسلمون خلال الفتوحات الإسلامية، والدليل على ذلك أن الإسلام استمد الكثير من نظمه السياسية من الفرس والبيزنطيين، وسمحت مرونة اللغة العربية بامتصاص العديد من المعاني والمصطلحات السياسية.
كتاب الفكر السياسي في المغرب والأندلس للدكتورعادل يحيي
في تقديمها للكتاب، قالت الأستاذة الدكتورة زبيدة عطا أستاذ التاريخ الإسلامي وعميد كليه الأداب بجامعة حلوان الأسبق، إن كتاب الفكر السياسي في المغرب والأندلس بعد دراسة جادة ومتميزه قدمها د. عادل يحيى للمكتبة العربية وخاصة في مجال الدراسات الإنسانية، وتتناول بحوث الكتاب المعنى اللغوى لكلمة الفكر، وكذا كلمة السياسة والمعنى الإصطلاحي للفكر السياسي وما يرتبط به من مفاهيم أخرى مثل: النظريات السياسية وفلسفة السياسة، والقيم السياسية، وموقف هؤلاء المفكرين المسلمين من الحكام ومدى اقترابهم أو ابتعادهم من تعاليم الشريعة موجهين إليهم النصح والإرشاد كما هو الحال عند الحميدي في الذهب المسبوك في وعظ الملوك.
ويشتمل الكتاب على خمسة أبحاث الأول ماكتبه عن ابن حزم الأندلسي، وهو أحد أعلام التاريخ والفكر والأدب الأندلسي، وقام الدكتور عادل بدراسة جادة وجديدة في موضوعها وعرضها عن أثر البيئة في الفكر السياسي عنده. وكذلك دراسته لكتاب الحميدي الذهب المسبوك في وعظ الملوك ونصحه للحكام وحثه لهم على الالتزام بالشريعة وما يجب أن تكون عليه سلوكيات الحاكم.
ويشتمل الكتاب كذلك على دراسة جادة وتحليل ثاقب من خلال بحث نظرات في الفكر السياسي عند أبي بكر محمد الحضرمي، كما يمضي الكتاب في عرض وتحليل الفكر السياسي عند بعض كبار المؤرخين الإسلاميين وأهل الأدب منهم خاصة في بحثه جوانب من فلسفة السياسة عند ابن ظفر الصقلي من خلال كتابه سلوان المطاع في عدوان الاتباع، وكذلك ماكتبه عن ابن رضوان المالقي في كتاب الشهب اللامعة في السياسة النافعة عن القيم السياسية، والكتاب بذلك هو موسوعة فكرية الأراء عدد من كبار المفكرين من المسلمين وأرائهم فى السياسة والحكم، وما يجب أن يكون في الحاكم وأسلوب سياسة الدولة، وما تتطلبه من اصلاحات، وهي دراسة شاملة قائمة على التحليل والعرض المنهجي، وهي إضافة للمكتبة الأندلسية.
وذكر الأستاذ الدكتور عادل يحيي أن كتابه الجديد يضم مجموعة من البحوث في موضوع واحد، وفى بقعة جغرافية واحدة، أما الموضوع، فهو الفكر السياسي وما قد ينبثق عنه من موضوعات مثل القيم السياسية، وفلسفة السياسة ... وغير ذلك، وأما البقعة أو المنطقة الجغرافية فهى بلاد المغرب والأندلس، بما لها من إسهامات وعطاءات حضارية على امتداد مسيرة الحضارة الإسلامية في كلا البلدين، فضلا عن أن العصور التاريخية المشتركة بين المغرب والأندلس، وتاريخ الثقافة بينهما يجعل من الصعب على الباحث التفرقة بين ماهو مغربي أو أندلسي، ولهذا جاء عنوان كتابى على النحو المذكور.
وأعرب الدكتور يحيي عن أمله في أن يقدم كتابه صورة صادقة عن مدى تطور الفكر السياسي في المغرب والأندلس، من خلال أعلام هذا الفكر سواء أكانوا من الفقهاء وأهل العلم والأدباء، وأنهم كانوا جميعا بمثابة عيون ثاقبة لمشكلات مجتمعهم، كما عبروا بصدق - عما يجول بخاطرهم تجاه أحداث ومشكلات مجتمعهم وأمتهم وديار الإسلام عامة، آملين في تحسين أوضاع الأمة كافة، وهو ما يهدف إليه الكتاب.
ومن يتأمل هذا الكتاب القيم للدكتور عادل يحيي عبد المنعم، يشعر بمدى عالمية الحضارة الإسلامية بفضل اللغة السياسية التي أوجدتها تلك الحضارة العظيمة، لقد استوعب العالم الإسلامي جميع الممالك التي قامت بغزوه كالترك والتتار، وسرعان ما تحولوا لعناصر فاعلة تدافع عن الحضارة الإسلامية بعد أن اعتنقوا الإسلام، فيما فشل الاستعمار الغربي إثبات وجوده بين الشعوب الإسلامية؛ لأن الأوروبيين جاءوا كغرباء وظلوا هكذا، فلم تتسرب إليهم عقيدة الإسلام وثقافته، ومع ذلك فهناك قواسم مشتركة في اللغة السياسية بين الإسلام والغرب؛ لاشتراكهما في المسرح الجغرافي الذي يؤثر في صناعة الأحداث، فتقاسما سويًا تُراثًا مشتركًا خلال العصور الوسطى.
لقد حثت النصائح التي قدمها العلماء والإصلاحيون المسلمون على ضرورة الحفاظ على "الجماعة" وعدم الخروج منها نبذًا للفرقة، ولهذا ظهر "الأدب السياسي في الإسلام" لتحديد العلاقة بين الحكام والمحكومين، حيث كان للمسلمين تصوراتهم الخاصة حول خصائص الأمة ونُظم الحكم وأصول ممارسة السلطة، ومهام الحكومة وطبيعة العلاقة بين الحكام والمحكومين، واختلفت نظرة المسلمين للكيان السياسي عن تلك التي كانت سائدة لدى الغرب الذين كانوا يرون أن الأمة اختراع بشري، وأعمال الحكومة نوع من العقاب لمحو الخطايا، أما فلاسفة الإسلام فطرحوا كتاباتهم السياسية التي تُعرف بـ"الأدب السياسي" فمزجوا بين الممارسات السياسية للحضارات السابقة وبين قواعد الإسلام.
غاب هذا النمط من "الأدب السياسي" عن الغرب؛ لأن الثقافة كانت حكرًا على الطبقة الحاكمة وحدها، فيما كان يوجد طبقتان من النخبة المثقفة عند المسلمين، هي الطبقة الحاكمة، وطبقة الفقهاء، وانفتح النقاش حول مهام الحكومة الإسلامية التي اقتصر دورها على تمكين الأفراد من العيش في حياة إسلامية صالحة، تقوم على عبادة الله، لقد جعلت الشريعة طاعة الحاكم مكفولة ما دام يسهر علي تطبيق القانون ويدافع عن مظاهر الشريعة ويعلى من شأن بلاده ويصون حدوده.
لقد حدد "الأدب السياسي الإسلامي" شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وواجبات وحقوق كل منهما، فقد أعلى الإسلام من المساواة، ولم يعترف بالطبقات الأرستقراطية المنعزلة كطبقة النبلاء في أوروبا ولم يفرض الامتيازات الطبقية، وقامت العلاقة بين الحاكم والمحكومين على ثلاثة أسس، هي: اختيار الحاكم، إجراءات تسليم السلطة، ثم تعهد الحاكم ببعض التعهدات تجاه جماعة المسلمين، كما تتعهد الجماعة بحق الطاعة للحاكم.
ويعد مبدأ الطاعة محورًا أساسيًا لفهم شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم فقد أوجب الإسلام تكاليفه الشرعية عليهما، ولايعد مبدأ طاعة المحكومين شكلاً من النفاق السياسي لمدارة الحكام بقدر ما هو فرض ديني يستمد أصله من مصدري الإسلام "القرآن والسنة" لتنظيم الشكل السياسي والكيان المجتمعي للمسلمين، ومع هذا فأن هذه الطاعة ليست مُطلقة فالحاكم والمحكوم ملزمان بقانون الشرع، والحفاظ على الشريعة هي أولي مهام الحاكم، وبالتالي فإن انتهاك هذا المبدأ يؤدي لحدوث خلل في مبدأ الطاعة، وهكذا فإن الطاعة تمثل عقدًا مشروطًا بين الحاكم وجماعة المسلمين، ويُمنح الحاكم هذا الحق من أجل تسيير أمور الجماعة والحفاظ على مصالح الدولة واستقرارها، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وإذا تم وضع "الطاعة" ضمن سياقها الفكري والشرعي والتاريخي، نجدها تخضع لمبدأين مختلفين، هما "المهادنة" أو الاستكانة التي كرسها عامة الفقهاء، و"الراديكالية" التي تقوم على فكرة التغيير الجذري والإصلاح الشامل، حيث تمتد جذوره العميقة في التاريخ، لقد كان الإسلام يمثل ثورة على الوثنية والزعامات الجاهلية القبلية، ورغم أن التاريخ الإسلامي يزخر بالثورات التي نجح بعضها وفشل بعضها الآخر، لكن تم وصف الثورة على نطاق واسع بـ"الفتنة" وأشهرها أحداث الفتنة الكبرى التي تمخض عنها سقوط الخلافة الأموية في الأندلس عام 422هـ، وأدت لظهور دويلات الطوائف وتغول الممالك الإسبانية المسيحية على الأندلس الإسلامية.
ومنذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي دعا بعض الفقهاء مثل ابن حزم والحميدي وابن ظفر الصقلي إلى الالتزام بالجماعة وعدم التفرق والتناحر، فالالتزام بقاعدة "السمع والطاعة" كان أفضل من الخروج على الحاكم والوقوع في الفتنة، وحين سقطت بعض المدن الإسلامية في أيدي غير المسلمين، كصقلية في أيدي النورمانديين، والأندلس في أيدي الإسبان، أو آسيا الصغرى في يد التتار، تم إجبار المسلمين على الطاعة تحت وقع الاضطهاد، وأصبحت أوضاعهم أسوأ عما كانت في أشد الأنظمة الإسلامية قسوة؛ لذا خرجت الفتاوى الإسلامية التي تُحرم البقاء في دار الكفر، حتى لا يبقى المسلم في ظل حكم لا يطبق أحكام الشريعة، وهذا أدي لظهور بعض المصطلحات السياسية مثل الدعوة إلى "الحرية" و"الاستقلال".
لقد قدم الدكتور عادل يحيي في هذا كتاب (الفكر السياسي في المغرب والأندلس.. سلوانات الفقهاء والعلماء في نصح الحكام والأمراء) طرحًا جديدًا عن لغة الخطاب السياسي في الإسلام وما تتضمنه من إشارات واستعارات ودلالات ذات أصول فكرية وزوايا تاريخية، والدور الذي قام به العلماء والفقهاء في ظهور ما يُسمى بـ"الأدب السياسي".
الأستاذ الدكتورعادل يحيي