لا يزال عصر الحروب الصليبية يبوح بأسراره عبر العديد من المؤلفات الجادة التي ترسم صورة واضحة لمعالم هذا العصر من كافة النواحي العسكرية والسياسية والحضارية، ومن بين تلك المؤلفات الجادة والرصينة التي صدرت مؤخرًا لتضيف جديدًا للمكتبة التاريخية، كتاب "قوانين الفرنجة.. غزاة بيت المقدس.. جوانب من التاريخ التشريعي للصليبيين في بلاد الشام" للدكتور محمد فوزي رحيل، أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية التربية جامعة مطروح، وتقديم الأستاذ الدكتور حاتم الطحاوي أستاذ تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب جامعة الزقازيق.
موضوعات مقترحة
وفي مقدمته للكتاب قال الدكتور محمد فوزي رحيل :"درج الباحثون في مجال دراسات تاريخ الحروب الصليبية على الاستعانة بمجموعات مشهورة من المصادر التاريخية سواء كانت العربية أو الأوربية، غلب عليها كتب الحوليات والتراجم، لكن بعد إجراء عدد كبير من الدراسات في الشرق والغرب على حد سواء، ظن بعض الباحثين أن موضوع الحروب الصليبية قد قُتل بحثاً، وأن التجديد فيه ضرب من المحال، غير أن هذا غير صحيح أو مقبول لأمرين: أولهما: إن البحث العلمي لن يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وثانيهما: إن التنقيب قد كشف عن مجموعات من المصادر، ولا سيما على الجانب الأوربي لم يفد منها بعد على نحو كاف في الكشف عن صفحات جديدة من تاريخ الحروب الصليبية مثل المدونات القانونية والأغاني الصليبية".
وأضاف الدكتور رحيل :"تعد المدونات القانونية أهم مصادر هذا الكتاب، ومن الجدير بالذكر أن الاستفادة العلمية من هذه المدونات ما زالت محدودةً في عالمنا العربي فيما خلا جهود المؤرخين الأستاذ الدكتور/ حسين عطية والأستاذ الدكتور/ حاتم الطحاوي وكاتب هذه السطور، وربما كان الطابع القانوني لهذه المدونات له الدور الأكبر في العزوف عن الاستفادة منها، فلم يقصد بها أن تكون تاريخًا أو مصدراً للتاريخ، ثم إنَّها تحفل بالنصوص القانونية، وأحيانا تجود نماذج تاريخية لتطبيق هذه القوانين، وفي تقديري أن مطالعة هذه المصادر يمد الباحث بمادة مصدرية تاريخية جديدة -أحيانا تكون غير صريحة- تعد أكثر مصداقية من المصادر التقليدية، كما توفر مادة إضافية حول مؤسسات المجتمع الصليبي وجوانب من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، ولم تخل من حوادث تاريخية تسهم في ترقيع صورة ما جرى خلال هذه الفترة الحرجة من التاريخ العربي الإسلامي".
وتحدث الدكتور محمد فوزي رحيل عن دوافعه لتأليف هذا الكتاب، قائلاً:"وقد استرعى انتباهي هذا النوع من المصادر منذ أكثر من عقد من الزمان، وعلى أساسه أجريت عددًا من الدراسات نشرت منجمة، أنظمها في عقد هذا الكتاب حتى يكون الوصول إليها أيسر والاستفادة منها أكبر، وفي ضوء محتوى الكتاب عنونته "قوانين الفرنجة غزاة بيت المقدس،،، جوانب من التاريخ التشريعي للصليبيين في بلاد الشام"، ويتضمن بين دفتيه ستة فصول، ربما تكون نواة لعمل أكبر في المستقبل إن أذن الله عز وجل.
ويدور الفصل الأول حول "المجموعات القانونية مصدرًا لدراسة تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى مجموعة قوانين الفرسان الداوية نموذجا"، ويعرف هذا الفصل بأهم مجموعات القوانين التي سنها الصليبيون حال استعمارهم للساحل الشامي خلال القرنين 6-7 هـ / 12-13م ومن بينها مجموعة القوانين المرتبطة بمملكة القدس ومنها: قوانين المحكمة العليا، ورسائل القبر المقدس، وكتاب إلى الملك، وكتاب شكل الدعوى، وكتاب قوانين المحكمة العليا، وقوانين المحكمة البرجوازية، وتختم بالتعريف بقوانين أنطاكية التي قامت على أساس من القوانين السابقة، يليها مجموعات قوانين الفرسان الرهبان: الاسبتارية والتيوتون. ثم يلقي الفصل أضواء قوية على مجموعة قوانين الفرسان الداوية ومجالات الإفادة منها في التأريخ للعلاقات بين الشرق والغرب.
وجاء الفصل الثاني بعنوان: "القانون الأساسي للفرسان الداوية وأثره في الصراع الإسلامي الصليبي". عالج الفصل عدة جوانب تمثلت في: مدخل مختصر عن نشأة الفرسان الداوية، ثم مبررات صدور تشريعات الداوية، وظروف صدورها، وروافد هذه القوانين، وموقف المعاصرين من مزج الرهبنة بالفروسية، بعدها تعرض لأهم أقسام هذه التشريعات، وأخيراً أثرها في حروبهم مع المسلمين في بلاد الشام خلال الفترة المذكورة.
ودرس الفصل الثالث: "الجرائم المفضية إلى عقوبة الطرد من جماعة الفرسان الداوية" وهذا الموضوع بالغ الأهمية؛ لأنه يشرح بالتفصيل انتشار عدد من الجرائم الخطيرة داخل مجتمع يُدْعَى المثالية والانقطاع للعبادة وحرب المسلمين في، حين أن هذه التشريعات قد خصصت قسمين كبيرين من أقسامها للعقوبات التي تحل بمرتكبي الجرائم، ومنها السيمونية أي الالتحاق بالهيئة عن طريق رشوة أحد الأعضاء الكبار أصحاب الحل والعقد، أيضا إفشاء أسرار برلمان أو مجمع الهيئة، واقتراف جريمة قتل النفس المسيحية وغيرها كثير مما يؤكد زيف يمين العفة والطهارة الذي قطعه جميع من انتسب إلى الداوية. وختم الفصل بالآثار المترتبة على الطرد من الهيئة التي كانت تعني حرفيا نهاية الداوي المطرود حتى لو طالت به الحياة لأنه لن يستعيد أبدا مكانته في أي هيئة ينضم إليها بعد طرده من الداوية.
واهتم الفصل الرابع بموضوع: "الجرائم المفضية إلى نزع العباءة في قوانين الفرسان الداوية" حيث يدرس هذا الفصل الدرجة الثانية من درجات العقوبات التي تحل بمرتكبي الجرائم في هيئة الفرسان الداوية، إذ كانت العباءة أو الزي الرسمي للفارس الداوي مصدر فخر وحماية لمنتسبي الهيئة، ولا سيما أن ارتداء العباءة البيضاء اقتصر على الفرسان دون غيرهم، وفي حالة ارتكاب عدد من الجرائم كانت العقوبة نزع العباءة لفترة تطول أو تقصر، وربما يكون الحرمان من العباءة أبديًا، في حالة بعض الجرائم التي تضر سمعة الهيئة، وذلك بعد العرض على مجمع الداوية لتقرير مدي الضرر الواقع على الهيئة بسبب المخالفة، ومن أشهر الجرائم التي تفضي إلى نزع العباءة عصيان الأوامر الصادرة للداوي، وأيضا مجرد التهديد بالانضمام للمسلمين، وكذلك ضرب أحد أفراد الداوية أو حتى قتل عبد من عبيد الهيئة، وقد ختم الفصل ببيان الآثار المترتبة على نزع العباءة وإجراءات استعادتها.
أما الفصل الخامس فجاء بعنوان: "الجرائم والعقوبات عند الفرسان التيوتون"، وهذا الفصل ترجمة لدراسة قام بها أندريكس ستيرنز ونشرت في مجلة Speculum باللغة الإنجليزية، وقد رأيت أنه من المفيد نقله إلى العربية، ونظمه ضمن عقد هذا الكتاب حتى تكتمل الفائدة، كما أنه يقدم رؤية بانورامية لأهم الجرائم التي انتشرت بين الفرسان التيوتون والعقوبات المفروضة على مقترفيها، ومن الملاحظ أن هناك تشابهًا كبيرًا بين العقوبات التي فرضت في قانون الفرسان التيوتون وبين منظومة العقوبات في هيئتي الفرسان الداوية والاسبتارية ولا شك أن سبق الهيئتين تاريخيًا واقتفاء التيوتون أثر الهيئتين هو سبب هذا التشابه.
الفصل السادس والأخير جاء بعنوان " قانون التأمين على خيل الحرب في مملكة بيت المقدس الصليبية قراءة في مجموعة قوانين بيت المقدس" ومصدر هذا القانون مجموعة قوانين بيت المقدس وبالتحديد قوانين المحكمة البرجوازية، وغرض هذا القانون تأمين توافر خيول الحرب للمقاتلين الصليبيين العلمانيين التابعين للتاج الصليبي، ويشمل الفصل: التعريف بالدراسات السابقة حول هذا القانون، ومشكلات هذه الدراسة، وأيضًا التعريف بقوانين بيت المقدس، ثم مشكلة نقص الخيل لدى الصليبيين في الساحل الشامي، تلاها تشريع التأمين كوسيلة من وسائل حل هذه المشكلة، وما حواه هذا القانون من بنود، ومدى تأثر هذا القانون بالنظم الإسلامية، ثم جدوى هذا القانون في حل المشكلة التي سن من أجلها، وأخيراً نتائج هذا الفصل.
وفي ثنايا تقديمه للكتاب، قال الأستاذ الدكتور حلتم عبد الرحمن الطحاوي، أستاذ تاريخ العصور الوسطى بكلية الآداب جامعة الزقازيق، "تعد الحركة الصليبية أهم الظواهر التاريخية الكبرى التى جرت خلال العصر الوسيط، كما تعد ملمحًا قويًا للعلاقات بين الغرب الأوربي والعالم الإسلامي خلال الفترة نفسها، لقد فوجئ المسلمون في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي بأن الغزاة الصليبيين إنما وصلوا إلى الأرض العربية لكي يبقوا إلى الأبد، وذلك بعد تدفق العديد من المستوطنين الأوربيين من أجل الاستقرار فى الأراضى المقدسة، حيث مملكة بيت المقدس وباقي الإمارات الصليبية في بلاد الشام..
ولهذا كان لابد من وجود العديد من القوانين والتشريعات التى قام الصليبيون بإقرارها من أجل المساهمة فى زيادة استقرار السكان الصليبيين وطوائفهم المختلفة.
وإذا كانت الدراسات التاريخية العربية قد اهتمت بظاهرة الحركة الصليبية ونتائجها بشكل كبير، واعتمد أغلبها على المصادر التاريخية التقليدية على الجانبين الصليبي والإسلامي، فإن هناك جانبًا كبيرًا من المصادر الصليبية لم تلق سوى النذر البسيط من الاهتمام من جانب الباحثين العرب، وهي تلك المتعلقة بالتشريعات القانونية للصليبيين وعلى رأسها مجموعة قوانين بيت المقدس.
إن الاهتمام بالتعرف على أحوال المجتمع الصليبي فى بلاد الشام عبر دراسة المجموعات التشريعية التى قامت بتنظيم حياته طوال قرنين من الزمان لهو أمر فى غاية الأهمية بالنسبة للبحث التاريخي، وقد شرفت بأن نشرت أولى الأبحاث العربية فى هذا المجال فى العام 1998م عبر دراسة تحت عنوان " القانون البحرى لمملكة بيت المقدس الصليبية : قراءة فى مجموعة قوانين بيت المقدس "، حدث هذا قبل أن يقوم الأستاذ الدكتور حسين عطية بنشر أكثر من بحث جاد معتمدًا أيضا على مجموعة قوانين بيت المقدس الصليبية.
ويتضمن كتابنا اليوم للزميل محمد فوزي رحيل الأستاذ المساعد بجامعة مطروح، مجموعة من الأبحاث التى يمكن وصفها بالمتجاوزة من حيث اعتمادها الكامل تقريبًا على تشريعات الصليبيين فى مجموعة قوانين بيت المقدس وغيرها، فهو يقدم لنا مجموعة من الأبحاث الجديدة فى بابها والتى تتميز بتفردها، بدأها بدراسة "المجموعات القانونية مصدرًا لدراسة تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى مجموعة قوانين الفرسان الداوية نموذجاً" التي قدم فيها للقارىء الكريم تعريفًا موجزًا بأهم هذه المجموعات القانونية، ثم ألقى أضواء قوية على مجموعة قوانين الفرسان الداوية ومجالات الإفادة منها في دراسة تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي في العصر الوسيط.
أما الدراسات الباقية فهي تتناول أحوال الرهبان الفرسان فى بلاد الشام، خاصة فرقة الداوية، حيث تتبع الدكتور رحيل باقتدار القانون التأسيسى للفرسان الداوية وأثره فى الصراع الإسلامى الصليبي، ولم يكتف بذلك بل تعدى الأمر إلى بحثه فى الجرائم المفضية إلى عقوبة الطرد من جماعة الفرسان الداوية، فضلا عن بحثه أيضا حول الجرائم المفضية الى نزع العباءة فى قوانين الفرسان الداوية.
كما ساعد أيضًا في إظهار الجانب التشريعي لدى الفرسان الرهبان من التيوتون عبر ترجمته لأحد الأبحاث المهمة حول الجرائم والعقوبات عند فرسان جماعة التيوتون في بلاد الشام.
وختمها بموضوع بالغ الأهمية ألا وهو "قانون التأمين على خيل الحرب فى مملكة بيت المقدس الصليبية"، وذلك اعتمادًا على قوانين المحكمة البورجوازية، والذى تناول فى بنوده مسائل تتعلق بشروط التأمين، ودور الموظف المختص بفحص الخيول، والتعويضات المطلوبة، وهو موضوع مهم خاصة فى ضوء حالة النقص المستمر لخيول الحرب عند الصليبيين كما نعلم.
ويختتم الدكتور حاتم الطحاوي تقديمه للكتاب قائلاً:"إن هذا الكتاب الجاد يفتح آفاقا جديدة فى التعاطى مع المصادر الصليبية غير التقليدية، وهو إضافة مهمة إلى المكتبة التاريخية العربية، فضلا عن أنه يقوم بحث الباحثين الجدد على الابتعاد عن دراسة الموضوعات السهلة والمكررة، والقفز نحو مجال أكثر رحابة عبر الاعتماد على مصادر صليبية جديدة من أجل سبر أغوار أكبر حركة تاريخية فى مجال العلاقة بين المسلمين والغرب خلال العصر الوسيط".
كتاب قوانين الفرنجة للدكتور محمد فوزي رحيل
د. محمد فوزي رحيل