عندما تذكر أسماء المناضلين الذين رسموا دروبًا من الحلم، وسط لهيب الصراعات، لا يمكن أن تغفل اسم ميشيل كامل، رجل حمل همّ الأمة بقلب ينبض بالإنسانية، وقلم يشق طريقه فى ظلال الثورة.
موضوعات مقترحة
من قلب الجنوب المصرى، حيث نهر النيل يروى الحقول، إلى بيروت، عاصمة الفكر والنضال، ثم إلى باريس، المنفى الذى احتضن أحلامه وألمه، عاشت روح ميشيل كامل متوهجة، تناضل بالكلمة والإرادة، قصته ليست فقط سيرة رجل، بل مرآة لجيل عربى طمح إلى تغيير العالم، متحديًا العواصف التى حاولت كسره.
فى هذا السيناريو، نعود بالزمن لنعيش معه تفاصيل حياته، بين صخرة الروشة وصخب مقر «اليسار العربى»، حيث التقى الفكر بالثورة، وبين شوارع باريس التى شهدت محاولاته لإعادة بناء الحلم، رحلة تتداخل فيها السياسة بالإنسانية، والدموع بالأمل، والنضال بالحب.
المشهد الأول: ميلاد فى الجنوب المصرى
الشمس تشرق على قرية هادئة فى صعيد مصر، حيث يمتد نهر النيل كشريان حياة، فى بيت طينى بسيط، يصدح صوت بكاء طفل حديث الولادة، إنه ميشيل كامل. كان الهواء محملاً برائحة الحقول، وصوت الأجراس يتداخل مع أذان الفجر، فى مشهد يعكس تناغمًا فريدًا بين ثقافات متداخلة، فى هذه البيئة، تفتح ميشيل على قيم العدالة والتسامح، حيث تنعكس التنوعات الثقافية فى كل زاوية من حياته اليومية.
المشهد الثانى: الروشة: خلية النحل الفكرية
بيروت، السبعينيات، فى مبنى مطل على صخرة الروشة الشهيرة، كان مقر «اليسار العربى» أشبه بخلية نحل لا تهدأ. الأصوات تتداخل، الحوارات تتسارع، وأوراق المجلة تتكدس على المكاتب، بينما البحر الممتد خلف النافذة، يروى قصص الصمود والنضال، هنا تلاقت الأفكار من مختلف أنحاء العالم العربى، حيث اجتمع مناضلون من فلسطين والعراق وسوريا ومصر تحت سقف واحد، يوحدهم حلم الثورة والتغيير.
كان المقر ينبض بالحياة من الجوار، كان الشاعر الفلسطينى معين بسيسو، يمر يوميًا من مكتبه فى مجلة «لوتس»، بابتسامته الساخرة وقفشاته اللاذعة، يضيف جرعة من البهجة للرفاق، ويلقى أخبارًا من خطوط المقاومة، وعلى بعد خطوات، كان مكتب مجلة «الكرمل»، حيث محمود درويش، يدير شئون الأدب والفكر، حين يزور مقر «اليسار العربى»، كان حضوره يسبق خطواته، برائحة العطر الفريدة التى يعرفها الجميع.
لكن المقر لم يكن مجرد منصة للحوار والتنظير، بل كان مشتلًا للأفكار التى تترجم إلى أفعال، فى صيف 1982، ومع اشتداد العدوان الصهيونى على لبنان، جاء الكاتب الفلسطينى زياد عبد الفتاح إلى ميشيل كامل وعبد المنعم القصاص، مدير تحرير المجلة، بفكرة جريدة يومية توثق الأحداث وتقود معركة الكلمة، النقاش كان محمومًا، انضم إليه معين بسيسو وآخرون، وفى أجواء من التحدى والإصرار، وُلدت جريدة “المعركة”، أصبحت الجريدة صوتًا يوميًا يوثق لحظات الحصار ويشعل الروح النضالية، تمامًا كما كان مقر المجلة مصدرًا دائمًا للإلهام.
كان هذا المكان أكثر من مجرد مقر، كان بيتًا للفكر والعمل، حيث التقت السياسة بالإنسانية، والنضال بالكلمة، لتُكتب فيه صفحات من تاريخ لا يُنسى.
المشهد الثالث: بيروت المحاصرة
المدينة التى كانت يومًا مركزًا للفكر والنضال، أصبحت الآن محاصرة تحت النيران، مقر “اليسار العربى” لم يعد مكانًا آمنًا، لكن ميشيل لا يزال مصممًا على إتمام عمله، كأن المكان يعكس صمود سكانه، مع كل صوت قذيفة يهز الجدران.
فى مشهد يمزج بين الدراما والأمل، ميشيل يقرر إنقاذ أسرته الصغيرة. وسط الليل، تحت سماء سوداء بلا نجوم، يحمل ابنه بيبو بينما مارسيل تمسك بيديه بشدة، معًا يركبون زورقًا صغيرًا، يعبر بهم إلى قبرص ومنها إلى باريس، بينما بيروت تودعهم كأنها تشهد على رحلة نضال جديد.
المشهد الرابع: باريس.. المنفى وصوت الحنين
باريس، المدينة التى تحتضن المنفيين، تبدو كأنها مسرح للأحلام المؤجلة. فى مقر “اليسار العربى” الجديد، تتكرر روح النضال، كان المكان يضج بأصوات الأفكار والنقاشات الحادة. فى إحدى الزوايا، يجلس ميشيل، محاطًا برفاق الطريق، يتبادل معهم النقاشات، يوجههم، ويمسك بقلمه كأنه سلاح فى معركة لا تنتهى.
لكن، وسط هذه الحيوية، لم يكن غائبًا عنهم الحنين لبيروت، للروشة، للوجوه التى غادرت، لكنها لم ترحل عن الذاكرة.
المشهد الخامس: رحيل بصمت
فى شقة صغيرة بباريس، ميشيل يجلس وحيدًا. نظراته تتأمل صورًا قديمة: بيروت، الروشة، زملاؤه فى المجلة، بجانبه رسالة كتبها للدكتور رفعت السعيد، يطلب فيها ترتيب عودته إلى مصر، لكنه فى أعماقه، كان يعلم أن الرحلة قد لا تكتمل.
فى ليلة باردة، وقبل أيام من موعد السفر، رحل ميشيل بهدوء، كأنه يختار أن يترك العالم بصمت يناسب شخصيته، كان غيابه ثقيلاً، لكنه ترك وراءه إرثًا، يتحدث عنه كل قلم وكل صوت نضالى.
على مقهى أم نبيل: حديث الوجدان والحكايات المؤجلة
فى إحدى أمسيات بيروت الدافئة، كنا نجلس على مقهى أم نبيل، تلك البقعة الصغيرة فى منطقة الفاكهانى، التى كانت تُعرف بجمهورية الفاكهانى، والتى خلدها الشاعر الكبير سعدى يوسف فى قصيدته الشهيرة “صباح الخير يا أم نبيل”، كانت الجلسة أشبه باستراحة محارب، بعيدًا عن صخب النضال وثرثرة السياسة، أقداح القهوة تفوح برائحتها، وأحاديثنا تنساب بهدوء، تارة عن الأدب، وتارة عن أحلام المستقبل.
فى تلك اللحظة الحميمة، أسرّ لى ميشيل بسرٍ لم أكن أتوقعه، قال لى بصوته الهادئ: “أكتب القصة القصيرة، بل لدى مجموعة كاملة لم أجرؤ على نشرها بعد”، شعرت بدهشة ممزوجة بالفضول، وسألته عن السبب. كنت أُلح عليه، بل حاولت إقناعه مرارًا بأن ينشرها، لكن ابتسامته المعهودة كانت دائمًا الجواب. قال لى ذات مرة: “ليس الآن، هناك أولويات أخرى”.
ربما كان ميشيل يرى، أن النضال السياسى يحتل المقدمة على التعبير الأدبى، أو ربما كان يخشى ألا تكون نصوصه على مستوى طموحه الشخصى، لكننى كنت أرى فيه أديبًا كما هو مناضل، يمتلك عمقًا إنسانيًا قادرًا على أن ينسج الحكايات التى تمس القلوب.
تلك الجلسة تركت أثرًا عميقًا فى ذاكرتى، لم تكن مجرد حديث بين صديقين، بل كانت مرآة تكشف الوجه الآخر لميشيل، ذلك الإنسان الذى كان يحمل بين يديه أقلامًا للكلمة وأحلامًا للحياة، حتى وإن بقى بعضها طيّ الكتمان.
■ ■ ■
ميشيل كامل، الصحفى والكاتب المصرى البارز، ولد فى سوهاج فى 25 ديسمبر 1927 ، ورحل عن عالمنا فى باريس فى 4 مايو 1989.
اشتهر ميشيل كامل بإسهاماته الفكرية والثقافية المهمة، وبدوره فى مجال الصحافة، حيث كان يعمل فى جريدة الأهرام، وهو من أبرز الكتاب اليساريين فى مصر. كان مدافعًا قويًا عن العدالة الاجتماعية والقضايا الوطنية، وترك إرثًا فكريًا مهمًا فى الصحافة العربية.
الخاتمة روح لا تموت على صخرة الروشة التى شهدت على أجمل أيامه، وفى شوارع باريس التى احتضنت أحلامه، يبقى ميشيل كامل حاضرًا، قصته ليست فقط عن رجل، بل عن جيل حمل الحلم والتحدى، هو نبض اليسار وروح الإنسانية، وسيظل اسمه مصدر إلهام لكل من يسير على طريق الحرية والعدالة.