رسالة إلى أوروبا في الوقت الضائع

6-2-2025 | 17:24
الأهرام العربي نقلاً عن

السيدة أوروبا..

أنتِ الآن تشعرين بانسحاقٍ لم تعهديه منذ قرون، تضيق عليكِ مساحة المناورة، لم تعودى غازيةً ولا مستعمرة، بل محاصرة، تتذوقين مرارة الخوف والانكسار، تحدّقين فى مستقبل يزداد قتامةً تحت وطأة دونالد ترامب، الرئيس الأمريكى المفاجئ. 

 السيدة أوروبا.. 

بصماتكِ الوراثية محفورة فى قلب الأرض الفلسطينية، أنتِ المسئولة عن طرد اليهود من أراضيكِ إلى أراضينا، عن المذابح والمحارق التى طالتهم، عن صناعة عقدة الذنب التى حكمت سياساتك لعقود، وعن الثقافة التى زرعتها فى أطفالهم حتى كبروا بها، فكانت «المسألة اليهودية» كابوسًا، أردتِ التخلص منه بأى ثمن، ولو كان الثمن فلسطين.  

منذ أن وضع موشيه هس كتابه «روما والقدس» عام 1862، داعيًا إلى عودة اليهود إلى فلسطين، والأفكار الصهيونية تتسرّب إلى خطابك السياسي، متغذيةً على إرث العنصرية. 

لحق به مفكرون آخرون، مثل كارل ماركس وجان بول سارتر، وقبلهما موسى بن ميمون، الذى كان له أثر بالغ فى تشكيل العقلية اليهودية الفلسفية، وصولًا إلى تيودور هرتزل، الذى أرسى دعائم الصهيونية الحديثة، مستندًا إلى دعم القوى الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا، التى قدمت للعالم وعد بلفور عام 1917، فى لحظة خيانة للتاريخ والجغرافيا معًا.  

لاحقًا، أبرمت إسرائيل صفقات سرية مع فرنسا، دعمت بها باريس طموحها النووي، ودفعت ألمانيا التعويضات عن فظائع النازية، فيما واصلت القوى الأوروبية، صراحةً أو ضمنًا، دعم المشروع الصهيونى على حساب شعب لم يكن له يد فى المسألة برمتها، ومع ذلك، وسط هذا الإجماع، كان لديكِ أصوات أوروبية شجاعة، مثل أيرلندا، التى رفضت أن تكون شريكةً فى جريمة تاريخية، بعد أن رأت فى مأساة فلسطين انعكاسًا لمأساتها الخاصة مع إنجلترا.  

ظهر دونالد ترامب، فوجدتِ نفسكِ محشورةً فى زاويةٍ خانقة، لا فكاك منها، رئيس أمريكى غريب عن النخبة السياسية، يفرض الضرائب، يرفع التعريفات الجمركية، يتوعد بتهشيم حلف الناتو، ويتملص من دور الحامى الذى اضطلعت به واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية. من وجهة نظره، لم يعد هناك «حلف وارسو»، ولم يعد للمعسكر الشرقى وجود يبرر استمرار الدعم الأمريكى لأوروبا، ولا حاجة لاستمرار العولمة على النمط الغربي. 

 إنها لحظة الحقيقة..

 تجدين فيها نفسك مكشوفةً بلا حماية، ومع ذلك لا تزالين مترددةً فى الاعتراف بفعلتك الأصلية، الفعلة التى زرعت إسرائيل فى قلب الشرق الأوسط، على حساب شعب لم يكن فى أى يومٍ مسئولا عن اضطهاد اليهود فى أوروبا، بل كان ملجأً لهم فى فترات محنتهم الكبرى. 

عانى اليهود من عنصريتكِ، من خيالكِ الشعبى الذى شيطنهم، فصار اليهودى فى الأدب الأوروبى رمزًا للرعب والجشع، لم يكن مستغربًا، إذن، أن يُطارَدوا عبر العصور، أن يُحشروا فى معازل وأحياء فقيرة، أن يُعاملوا كمواطنين من الدرجة الثانية. 

حين قررتِ التخلص من إرثكِ القاتل، وجدتِ ضالتكِ فى فلسطين، أرضٌ لا تملكينها، فوهبتِها لمن لا يستحقها. 

فى البداية، انتدبت بريطانيا نفسها وصيةً على فلسطين بعد سقوط الخلافة العثمانية، ثم أطلقت وعد بلفور، وأوكلت إلى مؤرخيها ومثقفيها تزوير الرواية، بربط الأرض بالسماء، وصناعة «أرض الميعاد»، وحفروا فى الكتب المقدسة ليستخرجوا ما يبرر جريمتهم، فى محاولة يائسة لإلباس الاستعمار ثوب العقيدة. 

والأسوأ، أنهم نجحوا فى جرّ بعض العرب إلى فخ الرواية نفسها، حتى تبناها بعضهم عن جهلٍ أو تبعية.  

ربَّ ضارةٍ نافعة، فأنتِ كما كنتِ يومًا مهدا للتنوير والحداثة، وقائدة للثورات الصناعية، وصاحبة الكشوف الجغرافية الهائلة، وبانية المستعمرات وراء البحار، صرتِ اليوم فى قبضة الحصار، تتلمّسين طريقًا بين الركام، على أعتاب تهشيمٍ رهيب. ومع ذلك، لا تزالين عنيدة، تتشبثين بمواقفكِ البالية، تتجاهلين حقائق التاريخ والجغرافيا، ويعاندكِ القدر الآن، فتعانين الانسحاق السياسي، وتبحثين عن مخرجٍ من سطوة أمريكا الجديدة.  

لا تزال هناك فرصة، وإن كانت ضئيلة، العرب وحدهم قادرون على أن يفتحوا لكِ ممرًا للنجاة، أن يمنحوكِ شريانًا تتنفسين منه بعيدًا عن الاختناق الأمريكي، شرط أن تعترفى بخطاياكِ، وأن تتخذى خطوةً جريئة: الاعتراف الجماعي، الصريح، غير الموارب، بدولة فلسطينية حقيقية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة