بعكس طبيعته يبدو أن الغاز الطبيعى لا ينضب من أرض مصر، فرغم اكتشاف الغاز فى أراضيها منذ الستينيات، فإن الاكتشافات تتوالى منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا. حيث أعلنت وزارة البترول والثروة المعدنية عن اكتشاف إحدى الشركات الأجنبية العاملة لحقل غاز جديد فى منطقة شمال مراقيا بالبحر المتوسط، وهى منطقة جديدة غرب الحدود المصرية لم يسبق العمل فيها. وأظهرت النتائج أن البئر الموجودة بعمق مياه 1720 مترا، وتوجد طبقتان أساسيتان حاملتان للغاز فى تكوين الكريتاسى، ويجرى حاليا حساب التقديرات المبدئية لحجم الغاز. وتتميز البئر - بحسب بيان الوزارة - بأنها ليسة عميقة ويصل العمق النهائى إلى نحو 2700 متر، ما يعطى أملا بسهولة وسرعة تنميتها وبدء استخراج الغاز منها، كما أنها قريبة من بنى تحتية حالية بها سعة لاستقبالها.
موضوعات مقترحة
عرفت مصر الغاز الطبيعى قبل نحو 58 سنة، فقد تم اكتشاف أول حقل برى للغاز فى منطقة أبو ماضى فى دلتا النيل عام 1967 من قبل شركة بلاعيم للبترول، الذى كان بداية الاكتشافات الكبرى للغاز الطبيعى فى مصر، وتبعه اكتشاف حقل أبو قير البحرى فى البحر المتوسط فى عام 1969 وهو أول حقل بحرى للغاز الطبيعى فى مصر، ثم حقل أبو الغراديق فى الصحراء الغربية فى عام 1971 .
وتمثل منطقة البحر المتوسط النصيب الأكبر من إنتاج الغاز الطبيعى فى مصر بنسبة 62% تليها دلتا النيل، بنسبة 19% ثم الصحراء الغربية بنسبة 18%، وذلك من خلال 20 شركة مصرية وأجنبية . وتم أخيرا تحقيق العديد من اكتشافات الغاز الطبيعى العملاقة لتلبية احتياجات السوق المحلى المتزايدة ومنها نورس بدلتا النيل، وكشف شمال الإسكندرية وغرب دلتا النيل بالبحر المتوسط، وكشف ظهر الذى يعتبر أكبر كشف غاز طبيعى بالبحر المتوسط ومن أكبر اكتشافات الغاز الطبيعى بالعالم.
قيمة مضافة
ويقول الدكتور هشام عيسى، عضو اتحاد خبراء البيئة العرب، إن اكتشافات الغاز الطبيعى الجديدة، تمثل قيمة مضافة كبيرة للاقتصاد المصري؛ لأنها تعمل على تنويع المصادر البترولية، وبالتالى سيؤدى ذلك إلى زيادة الإنتاج، وزيادة تصدير الغاز الطبيعى المصرى للخارج بالعملات الأجنبية، بالإضافة إلى سد فجوة الغاز الطبيعى الموجودة فى مصر، حيث شهدت الدولة أزمة فى توافر الغاز من خلال تعطل حقل ظهر من ناحية، ومن ناحية أخرى التوترات الجيوسياسية فى منطقة الشرق الأوسط ككل التى انعكست بطبيعة الحال على حجم تبادل الغاز الطبيعى مع دول الجوار.
وأكد أن الاكتشافات الجديدة تعطى متنفسا جديدا للاقتصاد المصرى والاقتصاد البترولى بشكل خاص، لافتاً النظر إلى دورها فى زيادة العمالة فى هذا القطاع الحيوى. وأشار إلى أن الشركات الوطنية فى مصر قدراتها بالنسبة للاكتشافات، تحتاج إلى تدفقات استثمارية، فنحن ليست لدينا الشركات الكبرى التى تعمل وحدها فى الاكتشافات البترولية بصفة عامة، واكتشافات الغاز بصفة خاصة، ولا سيما عندما يكون هذا الغاز موجودا فى مناطق فى البحر، وبالتالى تحتاج استثمارات كبيرة جداً، فهذا يعنى تدفقات استثمارية مباشرة للاقتصاد المصرى، وتنعكس بشكل مباشر على التدفقات الدولارية، كما يعنى زيادة حصة مصر فى الغاز الطبيعى على المستوى العالمى.
ويرى أن هذه الاستثمارات الأجنبية، تعنى زيادة انتعاش الاقتصاد المصرى، وقد تنعكس على الشركات الوطنية من حيث نقل الخبرات والتعامل مع التكنولوجيات المتقدمة، ما يزيد من القدرات المصرية فى حالات اكتشافات الغاز المستقبلية. وبالنسبة لانعكاس اكتشافات الغاز الطبيعى الجديدة على الاستهلاك المحلي، أوضح عضو اتحاد خبراء البيئة العرب أنه فى الفترة السابقة كانت هناك بالفعل أزمة فى الطاقة، وكان يتم ترشيد الطاقة من خلال القطع المتتالى فى الكهرباء عن المنازل نتيجة نقص تدفقات الغاز الطبيعي، لكن تعنى الاكتشافات الجديدة زيادة حصة الشريك المصرى، وسيتم توجيه جزء منها للاستهلاك المحلى، وبالتالى حل جزء من أزمة الطاقة للمحطات التى تعتمد على الغاز الطبيعي.
فيما يعتقد عيسى أن الاكتشافات الجديدة لا تنعكس بالضرورة على فاتورة استيراد الغاز من الخارج، فهى ترتبط بمعايير أخرى، من بينها ما إذا كان هذا الغاز المستورد غازا مسال أم فى صورته الأولية، مضيفا أنه بالفعل من الممكن أن يكون هناك انخفاضا فى فاتورة استيراد الغاز، لكن هذا الخفض لن يكون بنسبة كبيرة أو بنسبة الشريك الوطنى فى الاكتشافات، لأن تلك المسألة معقدة بعض الشيء وتتعلق بعوامل أخرى. وينبغى الإشارة إلى أن الغاز الطبيعى هو أحد أنواع الوقود الأحفورى الأقل انبعاثا للغازات الدفيئة، وبالتالى دخول الغاز الطبيعى ضمن مزيج الطاقة بصورة أكبر فى مصر، بطبيعة الحال قد يؤدى إلى خفض نسبة أخرى من وقود آخر مثل المازوت، وبالتالى خفض الانبعاثات الإجمالية من وقود الطاقة فى مصر.
وشدد الدكتور هشام عيسى على أن وصول الرئيس ترامب إلى الحكم فى الولايات المتحدة والإجراءات التى اتخذها من خلال تشجيع إنتاج الوقود الأحفورى فى أمريكا بما فيه الغاز الطبيعى إلى جانب الفحم والنفط، يشجع هذا الدول الأخرى للعمل على زيادة اكتشافاتها من الغاز الطبيعى وغيرها دون الخوف من أى عقوبات خاصة بتغير المناخ وخفض الغازات المسببة للانبعاث الحرارى وغيرها من الضوابط البيئية، وهذا بالطبع عكس القرارات التى تم اتخاذها فى مؤتمر الكوب الماضى المتعلقة بخفض الاعتماد على الوقود الأحفورى خلال المرحلة المقبلة.
الاحتياجات الداخلية
ويقول الخبير الاقتصادى الدكتور بلال شعيب: إن اكتشافات الغاز الجديدة تؤمن احتياجات الشعب المصرى من الطاقة، وضمان أكبر لتشغيل محطات الكهرباء خصوصا أن أكثر من 50% من تلك المحطات تعمل بالغاز الطبيعي، وبالتالى فهذه الاكتشافات الجديدة تساعد فى سد احتياجات الدولة من الغاز التى تقدر بنحو 8 مليارات دولار سنوياً. وأضاف شعيب أن تلك الاكتشافات تعزز أيضاً من مكانة مصر كمركز إقليمى للطاقة، بالإضافة إلى دور تلك الاكتشافات فى عدم تعرض الدولة لأزمة دولارية فى حال زيادة الاعتماد على الغاز المستورد من الخارج.
وأشار إلى أن الدولة تستهدف الوصول إلى 100 مليار دولار صادرات من القطاع الصناعي، لافتا النظر إلى أن الاكتشافات الجديدة تسهم فى تعزيز القطاع ككل. كما أوضح أنه كلما كانت هناك فرص اكتشاف حقول غاز طبيعى جديدة، يكون هناك تنامى للفرص الاستثمارية وضخ المزيد من الاستثمارات فى الدولة المصرية، مما يعزز بشكل إيجابى الاحتياطى النقدى الأجنبى الذى وصل إلى أعلى مستوى له بنحو 47 مليار دولار. ولفت النظر إلى أنه سيكون هناك تحسن كبير فى مسألة أزمة الكهرباء، التى كان أساسها نقص إمدادات الغاز الطبيعى التى تعتمد عليها محطات الكهرباء بشكل أساسي.
مزايا بيئية
ويقول الدكتور ناصر أيوب، أستاذ الهندسة الصناعية بجامعة حلوان، إن الغاز الطبيعى المسال يحتل مكانة متميزة فى المشهد العالمى لاستخدام الطاقة، حيث يعتبر مصدر طاقة متعدد الاستخدامات ومثالياً، كمصدر انتقالى للطاقة فى عملية التحول المستمر نحو الطاقات المتجددة. وأضاف أن له العديد من الفوائد مقارنة ببدائل الطاقة المتجددة المختلفة فى تحقيق أمن الطاقة والاستدامة البيئية والجدوى الاقتصادي، أيضاً يوفر الغاز الطبيعى المسال مزايا بيئية كبيرة مقارنة بالوقود الأحفورى التقليدى مثل الفحم والنفط.
وأوضح الدكتور ناصر أيوب أنه وفقًا لوكالة الطاقة الدولية ينبعث من الغاز الطبيعى المسال، عند احتراقه، ما يقرب من 50% أقل من ثانى أكسيد الكربون مقارنة بالفحم وعدد أقل من الملوثات، مثل ثانى أكسيد الكبريت (SO2) وأكاسيد النيتروجين (NOx) ، مما يجعل الغاز الطبيعى المسال خيارًا مفضلًا للدول التى تسعى إلى خفض بصمتها الكربونية مع تلبية الطلب المتزايد على الطاقة. فيما أكد أن أمن الطاقة الذى يوفره الغاز الطبيعى المسال ذو أهمية كبرى، وذلك لوجود احتياطيات غاز طبيعى وفيرة موزعة على نطاق واسع فى أنحاء كثيرة من العالم، وتسهل عملية تسييل الغاز من نقله بكفاءة لمسافات طويلة عبر السفن وخطوط الأنابيب.
وأشار إلى أن هذا التنويع فى مصادر الإمداد والطرق يقلل من الاعتماد على المناطق غير المستقرة سياسياً، ويعزز مرونة الطاقة للدول المستوردة، وبالتالى يخفف من المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بانقطاعات إمدادات الطاقة. ويعتبر التنوع فى استخدامات الغاز الطبيعى المسال من المميزات الرئيسية، حيث يمكن استخدامه فى مختلف القطاعات بما فى ذلك توليد الكهرباء والتطبيقات الصناعية والنقل. وباعتباره بديلاً أنظف للديزل، يتم اعتماد الغاز الطبيعى المسال بشكل متزايد فى المركبات الثقيلة والشحن البحرى والنقل بالسكك الحديدية، مما يسهم فى تقليل الانبعاثات والامتثال للوائح البيئية الصارمة. إن قدرة الغاز الطبيعى على استكمال مصادر الطاقة المتجددة المتقطعة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية من خلال توفير طاقة أساسية موثوقة واستقرار الشبكة، يؤكد أهميته فى تسهيل دمج مصادر الطاقة المتجددة فى أنظمة الطاقة الحالية.
من الناحية الاقتصادية، يقول د.ناصر أيوب: إن تطوير البنية الأساسية للغاز الطبيعى المسال، يحفز النمو ويخلق فرص العمل فى المناطق المشاركة فى إنتاجه وتسييله ونقلها وإعادة تحويله إلى غاز. أيضا فإن الاستثمارات فى مرافق الغاز الطبيعى المسال لا تعزز مرونة البنية الأساسية للطاقة فحسب، بل تسهم أيضًا فى القدرة التنافسية لأسواق الطاقة، وتعزيز التنمية الاقتصادية وتحسين الوصول إلى الطاقة فى كل من البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء.
علاقة تكاملية
ويرى د. ناصر أيوب أن العلاقة بين الغاز الطبيعى المسال وبدائل الطاقة المتجددة المختلفة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، هى علاقة تكاملية وليست تنافسية. بمعنى آخر فعلى الرغم من أن الطاقة المتجددة يتم توليدها من مصادر مستدامة وخالية أو قليلة الانبعاثات، فإنها تخضع للعديد من القيود والتقلبات التى تمنع من توليدها باستمرار.
وتابع قائلا: مثال يتم توليد الطاقة الشمسية فى فترة النهار فقط، وكذلك تعتمد عملية إنتاج من الكتلة الحيوية المتولدة على الفصول المختلفة فى السنة، مما يتطلب أن تتطور تقنيات تخزين الطاقة لمعالجة هذه القيود. لذا يمكن استخدام الغاز الطبيعى المسال كمصدر طاقة موثوق للتغلب على هذه التقلبات، أى أنه يتم استخدام الغاز الطبيعى المسال لتعويض الطاقة أثناء انخفاض توليد الطاقة المتجددة ودعم استقرار الشبكة خلال فترات انخفاض توليد الطاقة المتجددة.
وأضاف: وعلاوة على ذلك، فإن التطورات فى تكنولوجيا الغاز الطبيعى المسال، بما فى ذلك وحدات التخزين وإعادة التغويز ومحطات الغاز الطبيعى المسال الصغيرة الحجم، تمكن من النشر المرن فى المناطق النائية أو التى تعانى من نقص الخدمات، مما يسهم فى الوصول إلى الطاقة والأمن.
إن التحسين المستمر لسلاسل توريد الغاز الطبيعى المسال وتطوير تقنيات الإنتاج الأكثر نظافة، إلى جانب إدارة صارمة لانبعاثات الميثان، يعززان من مصداقيته فى مجال الاستدامة البيئية، ويضمن توافقه مع أهداف المناخ طويلة الأجل.
وشدد على أن الغاز الطبيعى المسال يمثل مصدرًا انتقاليًا محوريًا للطاقة حيث يمكن الاعتماد عليه فى عملية سد الفجوة بين الوقود الأحفورى التقليدى والطاقات المتجددة فى التحول العالمى للطاقة. إن خصائصه فى الاحتراق النظيف، وفوائده فى مجال أمن الطاقة، وتنوعه، ومزاياه الاقتصادية تجعله عنصرًا أساسيًا فى إستراتيجيات الطاقة المستدامة فى جميع أنحاء العالم. وفى حين تقدم الطاقات المتجددة حلولاً مستدامة طويلة الأجل، فإن موثوقية الغاز الطبيعى المسال وقابليته للتوسع وتأثيره الفورى على الحد من الانبعاثات، تجعله حليفًا لا غنى عنه فى تحقيق أهداف أمن الطاقة والاستدامة البيئية فى المستقبل المنظور. ويمكن أن تشكل موازنة هذه المزايا للغاز الطبيعى المسال مع التقدم المستمر فى تقنيات الطاقة المتجددة أمرًا ضروريًا فى تشكيل مشهد طاقة مرن ومستدام فى المستقبل.