تطبيق "ديب سيك" للذكاء الاصطناعي، الذي تم إطلاقه في يوم تنصيب ترامب؛ وأصبح التطبيق المجاني رقم واحد في العالم بين عشية وضحاها، صدر عن شركة صينية مغمورة، تأسست نهاية 2023 برأسمال أقل من 2 مليون دولار!
وما جعل شهرته تطبق الآفاق، تكلفته التي تقل بعشر مرات على الأقل عن أقرب منافسيه الأمريكي "شات جي بي تي"، وأدى إطلاقه إلى فقد أكبر شركة رقائق أمريكية نحو 600 مليار من قيمتها السوقية في 24 ساعة، وهي أكبر خسارة في يوم واحد في تاريخ أمريكا.
والأهم من ذلك أن هذا التطبيق، يمثل قمة التحدي للحظر الأمريكي المفروض على الصين.. ليس هذا فحسب، بل إن تطويره تم بمبلغ زهيد "5.6 مليون دولار" مقارنة بالتطبيقات الأمريكية التي قد تتكلف ما بين 100 مليون إلى المليار دولار، فضلا عن تحميله مجانًا جعله يحظى بشعبية عالمية.
وأمام خطورته وصفه ترامب بـ"الوحش الصيني"، معتبرًا إطلاقه بمثابة "جرس إنذار" لصناعة التكنولوجيا الأمريكية، وجعله يطلق على أثره مشروع "ستارجيت" للذكاء الاصطناعي بقيمة 500 مليار دولار.
لاشك أن صراع الذكاء الاصطناعي بين الصين وأمريكا أحد أبرز الجوانب التنافسية في القرن الـ21، ما جعل الخبراء يصفونه بأنه "حرب باردة للذكاء الاصطناعي"، بدأت تدور رحاها منذ عام 2017، مع إعلان الصين خطتها لتطوير الذكاء الاصطناعي، والتي تضمنت إستراتيجية تهدف إلى أن تصبح الرائدة عالميًا في هذا المجال بحلول عام 2030.
من الناحية العلمية، يُعد الصراع بين الصين وأمريكا صراعًا حيويًا ومؤثرًا في تحديد ملامح المستقبل التكنولوجي، فكلاهما يسعى لتطوير تقنيات متقدمة في الذكاء الاصطناعي بهدف تعزيز مكانتهما العلمية والتقنية في العالم.
وتعد الأبحاث العلمية في الذكاء الاصطناعي من أبرز مجالات الصراع بين البلدين؛ فالصين تسعى إلى زيادة استثماراتها في الأبحاث الأكاديمية، فى حين تتمتع أمريكا بقاعدة علمية قوية تشمل الجامعات الكبرى مثل جامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وتواصل الاستثمار في أبحاث الذكاء الاصطناعي وتستقطب أفضل العلماء في هذا المجال.
وتزداد الخطورة فيما يتعلق بالتطبيقات العسكرية، مع تركيز كلا البلدين بشكل متزايد على تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تُستخدم في مجالات مثل الطائرات بدون طيار "الدرون"، الأنظمة الدفاعية الذكية، وتقنيات مراقبة البيانات.
وفى حين تركز الصين بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي لمراقبة الأمن الداخلي، تركز أمريكا على تطبيقاته في تطوير أسلحة ذكية وأنظمة دفاع متقدمة.
أحد الجوانب العلمية الأخرى الأكثر أهمية لهذا الصراع هو الاهتمام بـ"الحوكمة الأخلاقية" للذكاء الاصطناعي، فأمريكا "تشدد" على تطوير معايير أخلاقية وتشريعية حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسئول وآمن، أو هكذا يزعمون، والدليل دعمهم إسرائيل "تقنيًا" في حرب الإبادة في غزة..
في المقابل، الصين تروج لنموذج حوكمة يتيح لها دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل موسع في إدارة الدولة والمجتمع، بما في ذلك في مراقبة سلوكيات المجتمع عبر الإنترنت.
وهذا لا ينفي أنهما يواصلان تطوير تقنيات مبتكرة قد تكون مستقبلية في مجالات مثل الروبوتات الذكية وسيارات القيادة الذاتية والأجهزة الطبية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
القضية المهمة أن تطور الذكاء الاصطناعي يمثل تهديدًا وفرصة في آن واحد للاقتصاد العالمي، فهو يسهم في تحسين الإنتاجية وتقليل التكاليف في العديد من الصناعات مثل التصنيع والرعاية الصحية والتجارة، غير أنه قد يؤثر على فرص النمو الاقتصادي في الدول الأخرى، خاصة التى تتخلف عن الركب، وتبقى في مقاعد المتفرجين.
تطور الذكاء الاصطناعي سيؤدي حتمًا إلى زيادة الطلب على مهارات جديدة، ما يتطلب من الدول إعادة التفكير في مناهج التعليم والتدريب المهني لمواكبة هذه التحولات، التي ستحدث تغييرات جذرية في أسواق العمل العالمية.
خلاصة القول إن صراع الذكاء الاصطناعي بين الصين وأمريكا؛ ليس مجرد صراع تقني؛ بل هو معركة جيوسياسية تعكس التنافس حول من سيحدد قواعد اللعبة في الاقتصاد العالمي، ويسطر ملامح المستقبل في شتى مجالات الحياة.