تجربة السفر إلى العاصمة الكوبية هافانا ليست هينة، وهي مشقة، ما بعدها مشقة، بالمعنى الحرفي للكلمة، غير أن ما يشهده المرء من حفاوة الاستقبال، وكرم ضيافة شعبها المكافح، ضد الظلم الأمريكي الجائر، والحصار الاقتصادي والتجاري البشع، الذي تعرض -ويتعرض- له على مدار ستة عقود متواصلة يستحق تكرار المؤازرة.
زيارتي لكوبا -هذه المرة- هي الثالثة، سبقتها مهمتان مماثلتان في عامي 2006 و2023، وجاءت الحالية تلبية لدعوة من هيكتور هيرنانديز باردو، نائب المدير العام لمكتب برنامج مارتيانو، لحضور المؤتمر الدولي السادس لتحقيق توازن العالم "من أجل الجميع.. ومن أجل حوار بين الحضارات وثقافة السلام"، شارك في فعالياته نحو 1000 مندوب، يمثلون 98 دولة، في الفترة من 28-31 يناير.
المؤتمر يحظى برعاية كل من: اليونسكو ومنظمة الدول الإيبرو-أمريكية للتربية والعلوم والثقافة، والسوكاجاكي اليابانية، ومؤسسة ثقافة السلام، ومجلس علماء الاجتماع اللاتيني/الأمريكي، بالإضافة إلى منظمات دولية وإقليمية وجامعات أخرى.
كما ذكرت في مقالي السابق، تزامنت فترة إقامتي في هافانا مع بدء الولاية الثانية للرئيس الأمريكي، وقراره المثير للجدل بإلغاء مرسوم سلفه -بايدن- بإعادة اسم الجزيرة الكاريبية، المغلوبة على أمرها، في قائمة الدول التي يزعم بأنها ترعى الإرهاب. و"زاد وغطى"، إعلان الرئيس دونالد ترامب، يوم الأربعاء الماضي، بأنه سيطرد -قسرًا- 30 ألف مهاجر من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى قاعدة جوانتانامو البحرية، الواقعة في الأراضي الكوبية، المحتلة بشكل غير قانوني.
هذا المناخ السياسي والأمني الكوبي المتفاقم، محليًا وإقليميًا ودوليًا، أصبح وكأنه "قدر ومكتوب" على جبين واحدة من أكبر الجزر الكاريبية النامية، التي واجهت -وتواجه- أسوأ أزمة اقتصادية منذ التسعينيات، وتبدو مظاهرها في معاناة شعبها -نتيجة للحصار- من النقص الحاد في الإمدادات الأساسية، وارتفاع معدلات التضخم.
على مدار الستة عقود الماضية، وتحديدًا منذ إعلان انتصار ثورتها في اليوم الأول من شهر يناير عام 1959، قررت هافانا ألا تستسلم للهجمات الأمريكية الشرسة، والمتواصلة، وكذلك، الصمود في مواجهة بطش وتنكيل "جار السوء الإمبريالي التوسعي" الذي ترقى أفعاله لارتكاب جريمة إبادة جماعية تجاه شعب أعزل، يسعى لإقامة علاقة متحضرة، قائمة على أساس المساواة في السيادة والاحترام المتبادل.
في أثناء زيارتي الحالية لهافانا، عايشت ثلاثة مشاهد حماسية، وشعبية واسعة، أكدت -وتؤكد- التصميم الكوبي القاطع على الاختيارات الاستقلالية والسيادة الوطنية، وعلى مواصلة المسار والصمود البطولي، ضد أساليب ومظاهر الهيمنة الأمريكية.
المشهد الأول: كان عبارة عن مسيرة مليونيه حاشدة، جرى تنظيمها مساء الإثنين الماضي، بمناسبة حلول الذكرى الـ 72 لميلاد بطل كوبا القومي، خوسيه مارتي، ضمت الآلاف من المواطنين الكوبيين والزائرين، وانطلقت من حرم جامعة هافانا.
في هذه المسيرة التي أضيئت بالمشاعل، وتقدم صفوفها قائد الثورة وجنرال الجيش، راؤول كاسترو، والرئيس الكوبي، ميجيل ديازكانيل، تعالت الهتافات المعادية لسياسات الهيمنة الأمريكية، والمطالبة برفع الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي، وشطب اسم كوبا من القائمة السوداء للدول التي يزعم رعايتها للإرهاب.
المشهد الثاني، تكرر بعد ظهر اليوم التالي، 28 يناير، حيث تحولت الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الدولي السادس لتحقيق توازن العالم، بقاعة الاحتفالات الكبرى بالعاصمة، هافانا، وكذلك، جلسات المناقشات، والحوارات والمداخلات، إلى شبه مظاهرة حاشدة لتأييد ومساندة الشعب الكوبي في نضاله ضد السياسات الأمريكية.
المشهد الثالث والأخير، جمعني بعدد من المسئولين الكوبيين في مقابلات، بعضها مرتبة سلفا بوزارة الخارجية، يتقدمهم مدير شمال أفريقيا والشرق الأوسط، السفير أرماندو فيرجارا بوينو، ونائب رئيس المعهد الكوبي للصداقة مع الشعوب، فيكتور جاواتاه، ولقاءات أخرى عابرة في أثناء فعاليات المؤتمر، جرت مع قادة يتقدمهم: الرئيس ميجيل دياز كانيل، فيرناندو جونزاليس ألورت، جيراردو هيدز نورديلو.
الخلاصة التي خرجت بها -من المقابلات واللقاءات- مع القادة والمسئولين الكوبيين تتركز في أن الممارسات العدوانية الأمريكية -السابقة واللاحقة- ضد الشعب الكوبي تظهر عدم القدرة على إخضاع إرادته، والانحراف عن مساره الاشتراكي، وعن جهوده لإنعاش اقتصاده، والدفاع عن حريته واستقلاله وسيادته، والأهم، هو توجيه الشكر والعرفان لمظاهر التأييد والتضامن مع كوبا، من جميع أنحاء العالم.
أيضًا، لمست إشادة من القادة والمسئولين الكوبيين بالعلاقات التاريخية المتميزة مع مصر، وتحديدًا، موقف القاهرة الداعم لهافانا في رفض الحصار الأمريكي، وتطلعهم لتحقيق المزيد من التعاون الثنائي، في المجالات الاقتصادية والتجارية.
[email protected]
لقاء ودي مع الرئيس الكوبي ميجيل دياز كانيل على هامش فعاليات المؤتمر الدولي السادس من أجل توازن العال