"هذه المرة يبدو أن هذا هو الاختيار الصحيح".. كان هذا هو التعليق الذى جاء فى صدر الصفحة الأولى بجريدة "لوريان لو جور" الفرنسية، التى رحبت مثلها مثل جميع الصحف الأوروبية بالاتفاق الذى توصلت إليه فلسطين وإسرائيل لوقف إطلاق النار فى غزة وإطلاق سراح الرهائن بعد 15 شهرًا من الحرب، وذلك بعد أكثر من عام من الجمود، حيث تسارعت وتيرة المفاوضات غير المباشرة مع رحيل جو بايدن من البيت الأبيض وتنصيب دونالد ترامب.
موضوعات مقترحة
الدول الأوروبية جميعها اعتبرت أن وقف إطلاق النار شكل خبرا طيبا، خاصة للإسرائيليين أنفسهم، وبالأخص عائلات الرهائن، ذلك أن الحقيقة البسيطة هى أن الحرب انتهت وتم وقف نزيف الدم ، وحان الوقت لإعادة البناء.
الفلسطينيون المنهكون بعد 472 يوما من الحرب ممزقون بين الارتياح لدخول وقف إطلاق النار مع إسرائيل حيز التنفيذ والانزعاج من حجم الدمار، فهى فرحة ممزوجة بالحزن.
وعاش الجميع فى فلسطين الرعب من القنابل والطائرات بدون طيار التى تطاردهم ليلًا ونهارًا دون لحظة واحدة من السلام، ليصبح هناك أكثر من 10 آلاف شخص محاصرين تحت الأنقاض فى عداد المفقودين. الوجوه شاحبة أمام المشهد المروع المليء بالأنقاض الذى أصبح عليه الجزء الشمالي، من مخيم جباليا الذى شهد عدة عمليات للجيش الإسرائيلى لم يبق حجر على حجر وفق وصف الصحف الفرنسية، حيث بدأ الفلسطينيون بالفعل فى الشارع فى التحرك بسرعة وإزالة الأنقاض حيث خرج آلاف النازحين الفلسطينيين حاملين أمتعتهم وسط الدمار للعودة إلى منازلهم فى شمال أو جنوب القطاع من غزة المدمرة سواء فى الشاحنات أم سيرا على الأقدام. هناك من يبتسم ويرفع إشارة النصر والبعض الآخر يتقاسم الحلوى أو يلوح بالعلم الفلسطينى حيث يأمل الجميع أن يصمد وقف إطلاق النار على الرغم من هشاشته وأن يؤدى إلى سلام دائم.
الصحف الأوروبية وصفت الأزمة التى وقعت فى اللحظة الأخيرة، بأنها توضح عدم رغبة أى من الطرفين فى تنفيذ الاتفاق كما تعكس الأزمة الأكثر هيكلية، التى تضع بنيامين نتنياهو فى مواجهة وزرائه من اليمين المتطرف، والذين بدونهم تفقد حكومته أغلبيتها فى البرلمان، حيث أعلن وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، والذى يضم حزبه 6 أعضاء فى الكنيست انسحابه من الائتلاف الحاكم "بعد الموافقة على الاتفاق مع جماعة حماس. فتحذير رئيس الوزراء الإسرائيلى من أن "وقف إطلاق النار مؤقت" وانه يحتفظ "بحق استئناف الحرب إذا لزم الأمر وبدعم من الولايات المتحدة" هى تصريحات تسلط الضوء بشدة على هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار المكون من ثلاث مراحل، والذى يهدف فى نهاية المطاف إلى وقف نهائى للحرب.
فرنسا بدورها أعلنت أن الاتفاق الذى تم التوصل إليه بين إسرائيل وحماس لوقف إطلاق النار فى غزة يجب "احترامه"، وأن "الحل السياسي" يجب أن "يحدث" واصفة المحنة التى حدثت طيلة خمسة عشر شهرا بأنها محنة غير مبررة بل ودعت الدبلوماسية الفرنسية بأنه يجب على الجميع الاستعداد لعودة السلطة الفلسطينية، التى لديها مهمة إدارة هذه الأراضى الفلسطينية داعية إلى وقف إطلاق النار للسماح "ببدء عملية لا رجعة فيها من أجل التنفيذ الفعال لحل الدولتين".
المستشار الألمانى أولاف شولتز، رأى بدوره أن "وقف إطلاق النار هذا يفتح الباب أمام نهاية دائمة للحرب وتحسين الوضع الإنسانى الهش فى غزة" مؤكدا أن الاتفاق يجب الآن "تنفيذه حرفيا".
أما رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فقالت إن هذا الاتفاق يجلب الأمل للمنطقة بأكملها حيث عانى الناس من معاناة هائلة لفترة طويلة للغاية". ودعت إلى تنفيذه "بشكل كامل" مشيدة به باعتباره "خطوة أولى نحو الاستقرار الدائم فى المنطقة".
نفس الشيء بالنسبة لرئيس الوزراء البريطانى كير ستارمر الذى وصف الاتفاق بشأن غزة بأنه "الخبر الذى طال انتظاره لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين"، وكان "مستحقًا منذ فترة طويلة"، مضيفًا أن التركيز يجب أن ينصب الآن على بناء "مستقبل أفضل مستدام عن طريق حل الدولتين.
الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته جو بايدن، قال إنه "سعيد" بالاتفاق الذى تم التوصل إليه بفضل النشاط الدبلوماسى "العنيد والدقيق" لحكومته. وأكد أن مستشاريه ومستشارى خليفته دونالد ترامب عملوا "كفريق واحد".
ويشير موقع "المونيتور" إلى أن الرئيس المنتخب سارع إلى نسب الفضل لنفسه فى التوصل إلى الاتفاق على منصته للتواصل الاجتماعي، قائلاً إن المفاوضات لم تتمكن من النجاح إلا بفضل انتصاره التاريخى فى نوفمبر. بينما تشير صحيفة نيويورك تايمز إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة الذى طال انتظاره، والذى تم التفاوض عليه بشكل شاق هو فى جزء منه نتاج تعاون ملحوظ بين الرئيس جو بايدن والرئيس المنتخب دونالد ترامب اللذين وضعا جانباً وبشكل مؤقت عداوتهما المتبادلة لتحقيق هدف مشترك.
موقع "سى إن إن" جاء رأيه على نفس الوتيرة، إذ رأى أنه فى نهاية المطاف سيسمح الاتفاق لكل من جو بايدن ودونالد ترامب بأن يزعم كل منهما الفوز. فبحسب تحليل موقع القناة الأمريكية، فإن هذا هو آخر خبر إيجابى لرئيس، من المقرر أن يترك منصبه بأدنى معدلات التأييد له خلال فترة ولايته. وهو يعزز السمعة التى اكتسبها الرئيس المنتخب الذى تعهد بأن "الجحيم سوف يندلع فى غزة إذا لم يتم حل المشكلة". وبينما كانت المفاوضات تقترب من نهايتها اغتنم وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن هذه "الفرصة لتفصيل رؤيته للمستقبل" فى غزة، بما فى ذلك على وجه الخصوص إنشاء منطقة آمنة للاجئين الفلسطينيين فى قطاع غزة وكذلك الدولة الفلسطينية المستقلة وإقامة إدارة السلطة الفلسطينية للأراضى المحتلة.
ستيفانو سيلفسترى الرئيس السابق للمعهد الإسرائيلى للأبحاث السياسية والخبير الجيوسياسي، وصف أولوية ترامب بأنها ليست السلام، لكن تحرير الولايات المتحدة من عبء الحروب. فبالنسبة للمحلل الإسرائيلى لا يمكن التساؤل عما إذا كان عام 2025 هو عام السلام أم لا؟ لأنه ليس هناك لحظة محددة مسبقاً لتحقيق السلام، بل يجب على الرجال الذين يتعين عليهم أن يبنوا هذا السلام أن يكونوا مقتنعين بذلك حقا.
وبما أن الولايات المتحدة تظل الدولة الأقوى على وجه الأرض، فسوف يصبح الكثير من الأمور مرة أخرى فى أيدى القابع فى البيت الأبيض فى واشنطن، وهو أمر أكثر إثارة للقلق من أى وقت مضى فى ضوء عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات الرئيس دونالد ترامب الذى أعيد انتخابه، فالحقيقة أن ترامب قال إن أولويته ليست السلام بقدر ما هى تحرير الولايات المتحدة من عبء الحروب وهكذا فهو مهتم إلى حد ما بما يحدث على الأرض طالما أن الولايات المتحدة قادرة على الانسحاب.
لكن بما أن هذا الانسحاب لا يمكن ولا ينبغى له أن يضر بالزعماء الأمريكيين فهذا يعنى أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل على الأقل على جلب "السلام" إلى الوطن هذا العام، حيث اتفق ترامب مع بايدن على ذلك، لكن يظل الجميع يتوجسون خيفة من أن تؤدى هذه الهدنة إلى تفاقم التوترات بين إسرائيل وفلسطين، فحتى لو انتهت هذه المرحلة الأولى من الاتفاق والتى تعنى فقط تبادل الأسرى إلى الأفضل، فهناك مرحلتان ثانية وثالثة، حيث سيتم تحديد هيكل غزة، ومن سيتولى إدارتها وهذا هو المستقبل الحقيقى للفلسطينيين. باختصار حتى إعادة هذا السلام "الوحيد" إلى الوطن لن يكون سهلاً على حد تعبيره.