نصف ساعة من الزمن، خطاب قصير، وقاعة مستديرة في مبنى الكونجرس الأمريكي، ونخبة مختارة من الضيوف، يرفع دونالد ترامب الحرج عن نظام دولي هش، كان يعتقد أنه هرقل الجبار.
نصف ساعة تنسف اتفاقية ويستفاليا، أساس النظام الدولي الميت، تستعيد أحلام الآباء المؤسسين، تتخلص من أوروبا، رجل أمريكا المريض، تبتعد عن مستنقعات أوراسيا وحروب ما وراء البحار، وتلتفت إلى عمق الأمريكتين - الشمالية والجنوبية - كفناء خلفي يجب أن يكون أمريكيًا خالصًا.
يوم 20 يناير 2025، يبدأ توثيق تاريخ مختلف، تاريخ يجعل أوروبا تشعر بالهزيمة الإستراتيجية، وتدفع المنظمات المرتبطة بأمريكا تمويلًا وفكرًا إلى التخبط في الظلام، أما الأفراد المبشرون بالليبرالية المتوحشة فيجدون أنفسهم في نفق مظلم بلا نهاية.
أكثر من مائة قرار يتخذه ترامب في اليوم الأول من تنصيبه رئيسًا، أشبه بزلزال قوته 20 ريختر، تتشقق معه جدران النظام الدولى الذى يبدو وكأنه لا يسقط بالتقادم، ينسحب من اتفاقية باريس للمناخ، يقرر الحفر عن الطاقة التقليدية (الغاز والبترول)، ينسحب من منظمة الصحة العالمية، يفرض جمارك وضرائب على سلع الدول الأجنبية، يرسل الجنود إلى الحدود الجنوبية لطرد المهاجرين غير الشرعيين، يمنع إعطاء الجنسية للأطفال المولودين على الأراضى الأمريكية من مهاجرين غير شرعيين، يطلق على خليج المكسيك “الخليج الأمريكي”، يوقف المساعدات للوكالات والجمعيات الدولية، لفهم كيفية صرف هذه الأموال، ومدى فائدتها للسياسة الأمريكية، ويلغي كل أوامر الرئيس السابق جو بايدن الخاصة بالعرق واللون والجنس، مؤكدًا أن سكان أمريكا هم من ذكر وأنثى فقط.
بعض المتحذلقين، أو المبشرين بالسياسة الأمريكية يستهينون بتصريحات ترامب، ويتذرعون بأن النظام الأمريكي يقوم على مؤسسات بيروقراطية لن تسمح له بتنفيذ أجندته غير المسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة، لكن هذه الآراء، كما يبدو، تصدر عن جرحى حرب، يعانون من هول الرعب، فأمريكا التي خبروها لن تكون هي ذاتها بعد الآن.
تصريح رئيس وزراء فرنسا، فرانسوا بايرو، كان اعترافًا قاسيًا حين قال بوضوح: “إن أوروبا قد تُسحق”، وبالطبع لن تكون وحدها التى ستتهشم ببلطة ترامب، بل كثير من الأمم التى ربطت مصيرها بمصير الولايات المتحدة الأمريكية.
ترامب صرخ بوضوح في خطاب تنصيبه: “التاريخ يبدأ الآن دورة جديدة”، وأضاف: «لن تحارب أمريكا بالنيابة عن أمم أو دول أو جماعات»، وبالطبع لن تصنع أمريكا أفلامًا سينمائية حول أبطال المارينز الذين ينقذون الحلفاء خلف خطوط العدو.
تعالوا نستعيد بعضًا من خطاب التنصيب القصير والخطير، يقول فيه: ”سأضع أمريكا أولًا، وستصبح قريبًا أقوى، سنستعيد أمننا وسيادتنا وميزان العدالة”، ويعلن بوضوح: “انتهى الانهيار الأمريكي منذ الآن، والحلم الأمريكي سيعود مرة أخرى.
وجيشنا سيكون الأقوى على مستوى العالم، قواتنا المسلحة ستركز على مهمتها الوحيدة، وهي إلحاق الهزيمة بأعداء أمريكا، وأريد أن يكون إرثي هو أنني صانع سلام ووحدة، وستوقف قوتنا الحروب، وستجلب روحًا جديدة من الوحدة إلى عالم كان غاضبًا وعنيفًا وغير قابل للتنبؤ تمامًا. سنضع حدًا لكل الحروب”.
وصل ترامب إلى ذروة الخطر حين أعلن: “سنستعيد قناة بنما، فكثير من الأمريكيين فقدوا حياتهم أثناء بناء قناة بنما، وسنغير اسم خليج المكسيك ليصبح خليجًا أمريكيًا”، كما يؤكد انسحابه من اتفاق باريس للمناخ.
ترامب، كما يبدو، يفتح صفحة جديدة من الرعب، تعيد تشكيل النظام الدولي وفق رؤيته الخاصة، تاركًا العالم في حالة من الارتباك وعدم القدرة على التنبؤ.
بينما المؤكد أنه يعود إلى 377 عامًا إلى الوراء، فاستعدوا.