في مهرجانات السينما شيء واضح وغامض، يتجاوز عروض الأفلام، فلا يستوعبه البرنامج. لا أقصد النقاشات التالية للعروض، في الاستراحة بين فيلم وآخر، وبعد عرض فيلم أوصى به مَن شاهدوه في لجنة الاختيار. هذا الشيء لا يخصّ الأبحاث العلمية والكتب، وأنشطة تشمل ندوات لصناع الأفلام، وتقديم منح إنتاجية لمشاريع جديدة.
موضوعات مقترحة
هذا الشيء هو الحالة العامة الدالة على السياق المعرفي المحيط بعملية الإبداع، والوعي بدلالة السينما وخطورتها، وكيف تنعكس على الحماسة لإنجاز أفلام تحمل اسم هذه الدولة أو تلك. في الدورة التاسعة لمهرجان «أوسيان سيني فان للسينما الآسيوية والعربية»بنيودلهي، يوليو 2007، شاهدتُ فيلم«باب الحديد» الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1958.
حظي الحضور من الهنود والآسيويين بما فات معظم أبناء هذا الجيل من العرب، بمشاهدة «باب الحديد» على شاشة كبرى تستوعب نظرات قناوي الجائعة إلى فتاة المحطة، وإلى هنومة، نظرات بعمق الاشتهاء والكبت والفقر، والحاجة إلى التحقق الشخصي، وهو ما لا تفلح في إظهاره شاشة التلفزيون المستأنسة. كان صلاح أبو سيف محقًّا، لم يكابر حين ذهب إليه عبد الحي أديب بالسيناريو، فقال له: هذا فيلم مجنون، اذهب به إلى يوسف شاهين. ذهب الرجل، وكتب حوار الفيلم محمد أبو يوسف.وفوجئ الجمهور بأن بطله الأول فريد شوقي يتوارى بالظلال، في حين يستأثر بالأضواء قناوي نصف المجنون، نصف العاشق، المنتقم الكامل في النهاية.
لأول مرة
ثار الجمهور المصري «العاطفي»، وعاقب شاهين سنوات، ثم أعاد اكتشاف الفيلم مع ظهور التلفزيون، وكأنه يرد الاعتبار، ويقدم الاعتذار عن الخطأ في حق فنان سبق الجمهور والنقاد بخطوات.عاش الفيلم ولايزال قادرا على تجاوز اختبار الزمن واللغة والجغرافيا، استنادا إلى سحر السينما، لو تحقق لها شرط واحد هو الصدق الفني. في الأيام التالية لمهرجان «أوسيان»، كان سينمائيون لا أعرف جنسياتهم، من الآسيويون، إذا قلت لهم إنني مصري، يردون بإعجاب:«Oh, Cairo station». بعضٌ من هؤلاء لا يعرف شيئا في مصر، باستثناء الأهرام، وربما جمال عبد الناصر. لكن الفيلم أعطاهم فكرة عن مصر، وصار أكبر من مجرد شريط يحكي حكاية.
في الدورة العاشرة لمهرجان «أوسيان»،2008، وفي ظل استمرار فقر سينمائي مصري لائق بالمشاركة في ذلك المهرجان وفي غيره، شاهدتُ ثلاثة أفلام إسرائيلية:«شجرة الليمون» بطولة الفلسطينييْن علي سليمان وهيام عباس، و«العروس السورية» بطولة كلارا خوري وهيام عباس.كلا الفيلمين للمخرج عيران ريكليس. أما فيلم «زيارة الفرقة»بطولة صالح بكري وإخراج عيران كوليرين، ففاز بجائزة الجمهور. دراما «العروس السورية» تدور في الجولان المحتل، مأساة عائلات يتوزع أبناؤها على الضفتين، ضفة الوطن وضفة العدو. محادثاتهم وأسرارهم عبْر الميكروفونات. الأفلام الثلاثة مصنوعة بذكاء، غير بريء، يحمل إلى العالم رسالة عن قسوة الاحتلال، بمعالجة فنية هامسة. لكن «العدالة الإسرائيلية» حاسمة، تنصف الطرف الضعيف.
القضاء الإسرائيلي، في «شجرة الليمون»، ينصرأرملة فلسطينية، في نزاع زوجة وزير الدفاع الإسرائيلي معها. هذه رسالة الفيلم إلى العالم. والشاب الفلسطيني، في الفيلم، انتهازي، ينتظر فرصة للخلاص الفردي. شاهدتُ الفيلم بصحبة نقاد عرب، ومن الفلسطينيين الممثلة عرين عمري والمخرج رشيد مشهراوي الذي قلت له: «لو أن فلسطينيا أخرج هذا الفيلم فلن يغير فيه شيئا. فيلم ذكي، لا نستطيع امتداحه خوفا من الاتهام بالتطبيع».غادرت القاعة قبل دخول مخرج الفيلم عيران ريكليسليناقشه الجمهور. في المهرجان أفلام مصرية لم يهتم مخرجوها بالحضور. ذاكرة الجمهور تحفظ دائما تفاصيل النقاش مع صانع الفيلم، وصناع أفلامنا غابوا عن مهرجان كبير، وجذبتهم مهرجانات الخليج.
الخروج للنهار
تنتج إسرائيل سنويا حوالي عشرة أفلام.من هذا العدد القليل أعمال تشارك في مهرجانات دولية، وتنال جوائز استنادًا إلى جودتها وقدرتها على المنافسة. وفي عام 2024 أنتجت مصر 43 فيلما.منذ زمن يصعب وجود فيلم «زي الناس» للتنافس في مسابقة رسمية دولية، ولو في مهرجان مصري. ونجيد لعن ظلام لا نسهم في تبديده. لم يجد مهرجان الإسكندرية،عام 2007، فيلما يصلح للمشاركة في المسابقة. للمرة الأولى في العالم تخلو مسابقة مهرجان من فيلم يمثل البلد المنظم. وكان مهرجانا دبي وأبو ظبي يجتذبان الأفلام المصرية المهمة.قبل إلغاء المهرجانين الإماراتيين، كانا خيارا أول لصناع أفلام مصريين يضحّون بالمشاركة في مهرجان القاهرة.
يظل مهرجان القاهرة، حتى قبيل انعقاده، يبحث عن فيلم يقنع الأجانب بوجود سينما مصرية غير تجارية.في عام 2016 استبدل المهرجان بفيلم «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد فيلمافُرض على عجل، هابطا بالأمر المباشر على المسابقة الرسمية الدولية، عنوانه «البر الثاني»، من إنتاج وبطولة المقاول محمد علي، الذي دخل دار الأوبرا لحضور عرض فيلمه، وسط حرس شداد أساءوا التعامل مع الحضور. محمد علي؟ نعم، هو المقاول الذي هرب، عام 2019، إلى إسبانيا. واضطرت إدارة المهرجان أن تعلن أنها رفضت فيلم «آخر أيام المدينة»؛ بسبب مشاركته في 35 مهرجانا. أن يخلو مهرجان مصريمن فيلم مصري، أفضل من وجود فيلم ضعيف.
جلد حي
مراجعة قائمة أفضل 100 فيلم مصري، التي أعلنها مهرجان القاهرة عام 1996، دالة على عقل «مركزي» كان يؤمن بأهمية الثقافة، وضرورة إنتاج الدولة أفلاما لا يتحمس لها المنتجون. والآن يُنتج سنويا خمسون فيلما، وخمسون فيلما أو أكثر في السنة التالية. تسقط من الذاكرة، وقبل هذا السقوط أو النسيان، لا يغامر صناع معظم هذه الأفلام بالتقدم بها للمشاركة في أي مهرجان، ستكون فضيحة. في حين لا يزال فيلم «المومياء»، الذي أخرجه شادي عبد السلام عام 1969، سفيرا لمصر في المهرجانات الدولية. في عام 2013 أعد مهرجان دبي السينمائي قائمة أفضل مئة فيلم عربي، وجاء «المومياء» في المركز الأول، يليه «باب الحديد».
منحتني المهرجانات مصادفات حلوة للتعرف إلى سينمائيين وأفلامهم. في طريقي إلى نيودلهي، صيف 2012، شاهدت فيلم «الخروج للنهار» على أسطوانة حملتها إلى انتشال التميمي. وفي مهرجان أبو ظبي، في أكتوبر 2012، قابلت صناع الفيلم، وسألت عن سعاد بطلة الفيلم، فكانت دنيا ماهر. وفازت هالة لطفي بجائزة أفضل مخرج عربي، والفيلم فاز بجائزة الفيبريسي مناصفة مع الفيلم الوثائقي «عالم ليس لنا» للفلسطيني مهدي فليفل. في المهرجان نفسه، عرفت عام 2010، المخرج أحمد فوزي صالح، مشاركا بفيلم «جلد حي» الذي نال جائزة أفضل فيلم عربي وثائقي. وفي مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية فاجأني فيلم «لأول مرة»،أتمنى لمخرجه جون إكرام حظًّا يناسب موهبته.