لعل قارئنا الكريم يتساءل ما سبب هذا العنوان الذي يبدو ظاهره غريبًا، لكن عندما نحيط القارئ علمًا بفحوى محتواه ستزول دهشته.
نعيش في أيامنا هذه حالة من الفوضى بداع من الحرية، ليس فقط فوضى بل عبثية عارمة، اختلط فيها الحابل بالنابل، أصبحنا كريشة في مهب الريح في يوم عاصف تتقاذفنا الأهواء والميول والشهوات، فلم نستطع أن نميز بين الغث والثمين، الحق والباطل، الخير والشر.
علي الرغم من أن هذه الأمور واضحة بذاتها، لكن لا ندري لماذا كل هذا الكم من التدني القيمي والأخلاقي؟!
فلم يعد خافيًا على كل ذي بصيرة ما نشاهده أو ما نسمعه أو ما نقرأ عنه في صحفنا أو على شبكات التواصل الإجتماعي.
من أن الطالب فلان طعن زميله في الصف الدراسي بمطواة، والأدهى والأمر أن نشاهد مقاطع مصورة صوتَا وصورةَ لطالبة تعتدي على زميلاتها سبًا وقذفًا بأبشع الألفاظ والشتائم.
فما الذي حدث لمجتمعاتنا الشرقية التي لها عاداتها وتقاليدها وعقائدها التي تنهى عن مثل هذه الفواحش؟!
هل نقول مثلا حدث هذا نتيجة للثورة المعلوماتية والانفلات عبر منصات التواصل الاجتماعي بكل ما تقدمه من مادة هابطة، قد يكون هذا صحيحًا؟!
هل لغياب دور الأسرة وانهماك الوالدين في توفير لقمة العيش في ظل ظروف اقتصادية يعاني منها الجميع شرقَا وغربَا، شمالَا وجنوبًا، وإن كانت معاناة الدول النامية أكبر وأكثر.
هل لأصدقاء ورفاق السوء دور في هذا التدني الأخلاقي والتدني القيمي؟ هذا وارد بنسبة كبيرة، فكما يقال (الصاحب ساحب).
هل السبب هنا نرجعه إلى المؤسسات التعليمية، سواء التعليم ما قبل الجامعي، أو الجامعي، لا يمكن إعفاء أحد من المسئولية، فالمدرسة تربية قبل أن تكون تعليمًا، والجامعة أستاذ وطالب، علاقة حميمة، ليست علاقة فصل دراسي، يقول فيه الأستاذ كلمتين في مقرره الدراسي وينصرف، وأين التقويم الأخلاقي؟! وأين تهذيب السلوك؟! وأين الاستماع إلى مشاكل الطلاب بدلا من تهديدهم وابتزازهم؟!
أم أن السبب ما نشاهده في الإعلام المرئي وما يقدمه من برامج هابطة لا تحمل معلومة مفيدة للمتلقي، اللهم إلا اعتمادهم على العري وقصات الشعر المختلفة (الاهتمام بالصورة فقط، والمضمون أجوف خاوٍ).
أم ما نشاهده من مهرجانات السجادة الحمراء، وعرض الأجسام، فبالضرورة سيشاهده الشباب من الجنسين، فيذهب إلى التقليد الأعمى، يريدون الشهرة والمال.
إن ما نشاهده من بعض المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال لمشاهد يندى لها جبين أي إنسان حر، فما لا نقبله على أولادنا لا نريده لأبناء وطننا الذي يسعى كل مخلص إلى نهضته ورفعته.
لكن رفعة الأوطان لن تكون بمشاهدة أفلام البلطجة وأفلام الشذوذ والإيحاءات والإشارات!! أم أن السبب انشغال المؤسسات الدينية عن دورها الرائد في تربية وتهذيب البنين والبنات؟! ألم تكن دعوة كل الشرائع إلى الخلق القويم وإلى الفضيلة وإلى إعلاء الجانب القيمي؟!
ورب واحد يقول المؤسسات الدينية تؤدي دورها، نقول ولماذا كل هذه الموبقات، إذا كانت تؤدي دورها فنطالبها بالمزيد، زيادة الخطب والدروس والمواعظ وذكر سير الأنبياء، وجميع هذه المؤسسات لها منصاتها التي تصل إلى الجميع، فهذا دوركم المنوط بكم!!
هذا هو الداء، المرض الخطير الذي تفشى في مجتمعنا؛ لذلك فأنا لا أعفي أحدًا من المسئولية، فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته.
فرب الأسرة في بيته عليه دور رئيس، التقويم الداخلي، أبدأ من البيت، المتابعة الجيدة للأبناء متابعة وليس تلصصًا، الاستماع إلى مشاكل الأبناء، السؤال عن أحوالهم، عن أصدقائهم، عن دروسهم في المدرسة، عن طريق مصاحبتهم.
كذلك على المدرسة، والجامعة دور مهم لا يمكن تجاهله، فإذا ما تقدم طلاب بشكوى ضد أساتذتهم، فلا ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام، وإنما لابد من إتخاذ الإجراءات القانونية في الحال.
أيضا الإعلام له دور فاعل في هذا الأمر، تشديد الرقابة على كل ما يقدم من مادة إعلامية للمتلقي، الرقابة على المصنفات الفنية، تفعيل برامج ثقافية حضارية تحمل مضامين هادفة، كحب الوطن والمواطنة وإبراز الوجوه الحضارية المشرقة لأبناء الوطن.
فلا ينبغي التركيز فقط على المشاهير من الممثلين ولاعبي الكرة، فهناك جنود مجهولة تسهم إسهامًا كبيرًا في نهضة البلاد، جل هدفها وغايتها القصوى رفعة ورقي بلادها، فلا ينبغي بحال من الأحوال غض الطرف عن هؤلاء، لماذا؟! حتى يستفاد من علومهم وتجاربهم وخبراتهم.
لا يمكن بحال من الأحوال أن نرى سلبيات مهلكات ونغض الطرف عنها، فليس منا من لا يهتم بهمومنا وبمشاكلنا، فجميعنا نعيش على أرض واحدة، وتظلنا سماء واحدة، مطعمنا ومشربنا واحد.
ومن ثم لا يمكن لكل وطني حر أن يرى منكرات ستعصف ببلده، ويقف متفرجًا غير مبالٍ، فما لا يطالك ويطال أولادك الآن، حتمًا سيطالكم غدًا.
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان