في ظِل ما يكابده الإنسان -الآن- من صعوبات وتحديات حياتية ظهرتْ كلمة "إحباط" بين الناس، وأصبح استخدامها شائعًا -خاصة- بين فئة الشباب عند الإخفاق في الوصول لهدف ما، حتى وإن كان هدفًا بسيطًا.
ما دفعني لكتابة هذه المقال هي تلك الحال من "استسهال الكلمة" على المستوى العامِّي/غير المتخصِّص، وعلى المستوى التخصصي أيضًا؛ فعلى المستوى غير المتخصص -كما سبَق وأشرتُ- أصبح الاستخدام الحياتي لتعبير "أنا مُحبَط" منتشرًا بشكل لافت بين الشباب، دون معرفة للأثر الذي يتركه هذا التعبير "القاتل" في العقل وكيفية تعاطيه والواقع، وفي البناء النفسي ومدى تماسكه.
ولم يكن هذا "الاستسهال" -حد التسطيح- مقتصرًا على غير المختص في ميدان الاضطرابات النفسية تشخيصًا وعلاجًا، بل وَجَدتُ هذا الاستسهال لدى بعض أهل الاختصاص؛ إذ يبحث المختص عن الأعراض الاكتئابية في شكوى العميل/المريض، ووصف أهله، وكثيرًا لا يلتفت المختص لاستخدام العميل/المريض لتعبير "أنا مُحبَط" إن لم يجد لديه الأعراض الاكتئابية!
إن كان الاكتئاب بوابة الموت الصارخ؛ إذ تكون الأعراض الاكتئابية -في معظمها- دالة كاشفة عن رفض الإنسان للحياة، فإن الإحباط هو بوابة الموت الصامت؛ إذ أراه الإحباط -في أوضح صوره- حال من فقدان المعنى، فالمُحبَط يفقد معنى الحياة رغم أنه يحياها، يفقد جوهر الوجود رغم وعيه به، أيْ يفقد الهدف من أن تكون حيًّا؛ فتهيمن السلبية، اللامبالاة، ويصبح كل شيء عاديًّا، فيتطابق النجاح والفشل، المكسب والخسارة، التحقق والإخفاق، بل يتطابق الوجود والعدم!
إذن، الإحباط في أبسط تعريفاته وأكثرها مباشرة هو حال من فقدان الرغبة؛ إذ يَفقِد الإنسان الرغبة في كل شيء، يفقد الشعور بالسعادة، يفقد الشعور باللذة؛ يَترُك -مُجبَرًا- تَحمُّل مسؤولياته، ويُحدِث قطيعة بينه وبين ماضيه، بينه وبين المستقبَل، ويعيش حاضره -فقط- للحفاظ على حياته من الموت، ومع استمرار تلك الحال قد يتخلَّى عن حياته -أيضًا- وينتحر.
لذلك، الإحباط يُعتبَر العامل الرئيس والأهم في تدمير الوجود البشري، ومقاومته مسئولية مجتمعية وليست فردية فقط؛ لأن الإحباط ينتشر بين الناس مثل العدوى الفيروسية تمامًا.
هل الإصابة بالإحباط حتمية؟
لا يوجد إنسان يمر برحلته في الوجود دون أن يصاب بالإحباط؛ إذ أرى الإحباط كالموت المنتظِر، يراقِب الإنسان بصبر ويقظة كي يفترسه ويُحوِّله إلى الحي الميت!
لذلك، عند الإصابة بالإحباط يجاهد المصاب بكل قوته الموت النفسي، قد يقاوِم بمفرده، لكن إن استمر الإحباط يبدأ الشخص في النداء على الآخَر كي ينقذه، وإن كان النداء رمزيًّا، إلا إنه يكون مفهومًا ملحوظًا، خاصة من المقربين من الإنسان المُحبَط.
ومع تلك المحاولات في التخلص من الإحباط، قد ينجح الإنسان في استعادة ذاته، والعودة إلى الحياة مرة أخرى، وربما تفشل محاولاته فيكون الموت النفسي، منتظِرًا الموت العضوي!
وهنا يكون العَود على البدء، والبدء كان حول "استسهال الكلمة"؛ استسهال الإنسان وتكراره لكلمة "أنا مُحبَط" يَفرض على العقل حال من الانفصال عن الواقع والتعامل معه بسطحية ولامبالاة، ما يترتب عنه عدم اتزان في البناء النفسي، فغياب القيمة والمعنى يجعل البناء النفسي للإنسان في حال من عدم الاستقرار والتخبط.
واستسهال المختص لكلمة "أنا مُحبَط" التي يسمعها من العميل -في حال غياب الأعراض الاكتئابية- تَحرم هذا العميل من المساعدة العلمية المطلوبة، وتجعله فريسة لفقدان معنى الحياة والوجود، وربما كان فريسة للانتحار!
بَيَّنتُ أن الإحباط يصيب الجميع، ويكون الاختلاف في درجة الإحباط، وفي مستوى مقاومة الإنسان له؛ إذ بعض البشر يكون لديهم رفض كامل للإحباط، فبالرغم من إصابتهم بالإحباط إلا أنهم يقاومونه حتى التغلب عليه، لديهم ذلك الأمل، ذلك الرجاء في السعادة، في الحياة، في القيام بدور فاعل في الوجود.
لذلك يقاوِم الإحباط كل من لديه:
المستوى المناسب من اتزان الشخصية.
المستوى المناسب من قوة الروح وتوهجها، وارتباطها بقوة داعمة حامية لها.
المستوى المناسب من الحُب "القدرة على أن يُحِب وأن يُحَب".
المستوى المناسب من الدعم من الآخَر، خاصة من المقربين.
من أجل ذلك..
قاوموا الإحباط بكل قوتكم.
ادعموا المُحبَط قبل فقدانه.
ابحثوا عن السعادة في الحياة، حتى وإن كانت لحظات.