في ليلةٍ ليست كأيِّ ليلة، ليلة رق ماؤها، وطاب هواؤها، وصفت سماؤها، يأتيه أمين الملائكة جبريل، عليه السلام، ويقول له: السلامُ يُقرِئُك السلامَ، يا رسول الله، ويقولُ لكَ: أنتَ الآنَ على موعدٍ للقاء الله!
يا اللهُ! ما هذا الجمال، ما هذا التكريم؟! ما هذه العظمة؟!
آذاه أهل الطائف، وأدمَوا قلبه، قبل جسده (صلى الله عليه وسلم) بكفرهم وعنادهم، في أصعب الأوقات على نفسه، إذ ماتتْ التقية النقية، أم المؤمنين خديجة، رضي اللهُ عنها وأرضاها، ومات سنده، عمه أبوطالب.
قال الله، جلت قدرته: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).. سُبْحَانَ: أمرٌ مُعجزٌ، خارقٌ للعادةِ، لا تقوى عليه قُدرات البشر، والمعنى: أن القادم في الحديث، يجب ألا نُخضعه لعقولنا، بل لقدرة مَنْ أمره بين الكاف والنون، وإذا قضى أمرًا، فإنما يقول له كُنْ فيكون.
كانت الرحلة المباركة، بالروح والجسد معًا، إذ لو كانتْ بالروح فقط، لما بدأ بسُبْحَانَ، ولما كان تكذيب الكافرين لها، فلا يُكَذَبُ الإنسانُ على ما يراه في نومه، مهما بلغتْ درجتُه..
أَسْرَى: الفعل هُنا منسوبُ لله، وليس لرسوله (صلى الله عليه وسلم) تأكيدًا على تفرد القدرة، فلم يقل (صلى الله عليه وسلم) أسريتُ، وإنما قال: أُسرى بيِّ، وما دامَ الفعل لله، فلا يجوز إخضاعه لمقاييس الزمن العادية لدي الإنسان.
وإذا كانت قوانين البشر تقول: إنَّ السرعة تتناسب عكسيًا مع الزمن، وفقًا لقانون الفيزياء، الزمن = المسافة / السرعة؛ فمدة رحلة الطائرة، أقل منها للسيارة، أقل منها للسير على الأقدام.
والسرعة التي يستخدمها الله = (ما لانهاية) عندئذٍ يتضاءل الزمن ليُصبحَ (صفرًا)؛ لأنَّ أية قسمة على ما لانهاية = صفرًا، وبذلكَ، لا زمنَ على الإطلاق! أما الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيحتاج كي يرى هَذِه المشاهد الكثيرة والخطيرة، قدرًا من الوقت، ومن هُنا جاءتْ (لَيْلًا) أي سويعاتٌ فقط، جزءٌ يسيرٌ من الليلِ.
بِعَبْدِهِ: هي رحلة تكريم وتشريف وتسرية، للعابد الأعظم (صلى الله عليه وسلم)، والعبودية لله، عِزٌّ وشرفٌ، يأخذ بها العبد خَيْر سيده، أما عبودية البشر للبشر، فمهانةٌ ومذلَّة، حيثُ يأخذ السيد خَيْر عبده، ويحرمه ثمرة كَدِّه.
لَيْلًا: وليسَ نهارًا، لتبقى المعجزة غَيبًا، يُختَبرُ بها الإيمان الصادق، ولذلكَ صَدَّقَ أبوبكر، وتهكم أبوجهل!
وقال بعبده، ولم يقل (بروح عبده)، كما أدعى البعض، للتأكيد على فكرة الروح والجسد، فيلزم أن يتأدب الجميع، مع النص القرآني، ويتوقف كلٌّ، عند حدود علمه.
بالإسراء والمعراج، ترسخ الإيمان في قلوب الصادقين، وانكشف المنافقون، وهذا مطلوب بشدة، قبلَ الهجرة، وبداية بناء الدولة، إذ لا مكانَ للمتخاذلين!
لِنُرِيَهُ: ولم يقلْ، ليرى، فالفعل منسوبٌ أيضًا لله تعالى، وقدراته اللا محدودة.
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ: بكل ما يدور، ويُقال ويُنظَر إليه، كذلكَ، يُعطي السمع والبصر (الخاصين) لمَنْ أراد من خلقه، ليسمع ما لا يسمعه غيره، ويرى ما لا يراه غيره.
في الإسراء والمعراج، عشر رسائل مهمة:
أولًا: عندَما تضيق الدُنيا، فقط قلْ: يا اللهُ..
ثانيًا: اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.
ثالثًا: رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أعظم الخلق، وأعلاهم قدرًا، وأحسنُهم خُلُقًا.
رابعًا: الملائكة درجاتٌ، والمصطفى (صلى الله عليه وسلم) فاقَ الملائكة والنبيين.
خامسًا: الأنبياء إخوةٌ، ودينهم واحدٌ.
سادسًا: رسالة الإسلام، خاتم الرسالات.
سابعًا: الصلاة عماد الدين وجوهره.
ثامنًا: الإيمان بالغيب، شرطٌ لاكتمال العقيدة.
تاسعًا: المسلمون بإيمانهم، لا بعددهم.
عاشرًا: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، كانا وسيبقيان، قبلتي الإسلام الخالدتين.