Close ad

سقط "يون" ولم يفهم مزاج شعبه وتاه في دهاليز السياسة

22-1-2025 | 11:59

العالم يراقب عن كثب هذه الدراما السياسية في كوريا الجنوبية، ولأول مرة يتم اعتقال رئيس والتحقيق معه بتهمة الخيانة العظمي، وتبدو كوريا هادئة رغم هذه الأزمة الكبرى، وتبدو جميع الأطراف، بما فيها الرئيس يون سوك يول، حريصة على أن تدار الأزمة في إطار مؤسسات الدولة، ووفقًا لآليات النظام الديمقراطي في البلاد.

وأغلب الظن أن قواعد اللعبة السياسية سوف تفرض كلمتها، ولن تتسامح مع أي محاولة للعب بعيدًا عن القواعد السياسية المستقرة.

وقبل مغادرة مقر الرئاسة، صرح يون بأن "القانون قد انهار تمامًا" في البلاد، وأنه يتجه إلى مكتب التحقيقات المركزي "لمنع الصدامات الدموية"، ويبدو أن هذه التعليقات تهدف إلى تحسين فرصه في دحض أوامر مكتب التحقيقات المركزي والتحقيق المشترك، ورغم عدم الاعتراف بذلك علنًا، يقول بعض الخبراء من الممكن أن نأمل أن يدرك الرئيس أنه كان بوسعه أن يتجنب الاعتقال لو تعاون منذ البداية وحضر طواعية للاستجواب في التحقيق الجنائي الجاري في التمرد، والذي يجري بالتوازي مع مراجعة المحكمة الدستورية. 

ويشير هؤلاء إلى أنه إذا عدنا إلى الوراء، فسنجد أن الرئيس كان بوسعه أن يتخذ خطوات أكبر لإقناع كتلة المعارضة الكبيرة في الجمعية الوطنية بالتوجه إلى السياسة التعاونية، والآن يتم اعتقال كبار المسئولين الحكوميين والعسكريين الذين اتبعوا أوامره في الثالث من ديسمبر أو توجيه الاتهام إليهم بتهمة التمرد وإساءة استخدام السلطة. 

ووصف زعيم حزب المعارضة الرئيسي في كوريا الديمقراطية لي جاي ميونج الموقف بأنه مؤسف، ولكنه أكد أن "الآن هو الوقت المناسب لاستعادة النظام الدستوري والتركيز على قضايا سبل العيش"، وفي الوقت نفسه، أعرب كويون سيونج دونج من حزب قوة الشعب الحاكم عن أسفه للضرر الذي لحق بمكانة الأمة.

وبدلًا من الاستعانة بحقه في الصمت، ينبغي للرئيس أن يختار التعاون الكامل مع التحقيقات، وتقديم رواية شفافة ومباشرة عن كيفية وسبب إعلان الأحكام العرفية في أوائل ديسمبر، وخاصة في دولة متقدمة مثل كوريا.
 
ويقول بعض الكتاب الكوريين :"إن التقدم الديمقراطي الذي حققته كوريا يعتمد على تضحيات مواطنيها، ونحن مدينون لهم بقوة ديمقراطيتنا الدائمة، وينبغي للرئيس أن يتولى زمام المبادرة في تأكيد أن هذه المرونة لا تزال توجه الأمة، وعلى نفس الروح، ينبغي لكل من الحزب الحاكم وحزب المعارضة، إلى جانب كل من يعملون في الخدمة الحكومية، أن يتحدوا في جهودهم لتعزيز واستقرار الديمقراطية في كوريا لصالح شعبها بأكمله".

ويؤكد هؤلاء أن تعاون الرئيس مع العمليات القانونية المحيطة بالتحقيق وامتثاله له من شأنه أن يرسل رسالة وطنية قوية مفادها أن القانون في الديمقراطية الكورية ينطبق على الجميع بشكل عادل ومنصف.

ولكن إذا حاول الرئيس تحريف القانون من أجل تبرير التفسيرات التفضيلية تحت ذريعة منصبه كرئيس في السلطة، فإنه بذلك يرسل رسالة خطيرة إلى الأمة، وهذا من شأنه أن يعمق حالة عدم اليقين لدى عامة الناس، ويزرع الخوف، ويؤجج الغضب في نهاية المطاف، ويقوض أسس الثقة في حكم القانون.

ومن ناحية أخرى وبشكل منفصل، بدأت المحكمة الدستورية في مناقشة ما إذا كانت ستعزله بسبب فرض الأحكام العرفية في الثالث من ديسمبر، وزعم يون أن المرسوم كان عملًا مشروعًا من أعمال الحكم، يهدف إلى مواجهة ما أشار إليه بالمعارضة "المناهضة للدولة"، التي زعم أنها سعت إلى تقويض أجندته، ولأنه صرح بأنه لن يتجنب المساءلة القانونية والسياسية عن أفعاله، يقول خصومه إنه يتعين عليه أن يثبت أنه رجل يفي بكلمته من خلال التعاون الكامل مع مراجعة المحكمة والتحقيق الجنائي المشترك الذي تقوده هيئة الاستخبارات المركزية.

وتبدو النهاية قريبة جدًا من رئيس كوريا الجنوبية "الوافد الغريب" القادم من سلك القضاء إلى ساحة السياسة.

 ويبدو أن يون على وشك إخراجه من المشهد السياسي بعنف بعد قراره بفرض الأحكام العرفية، قبل أن يلغيها بعد عدة ساعات، وسط رفض شعبي وحماية المتظاهرين لنواب الشعب ضد القوات الخاصة، وتمرير قرار تاريخي بالإجماع برفض الأحكام العرفية في البلاد.

وسرعان ما توالت الأحداث وأزاحته من المنصب هو والرئيس المؤقت انتظارًا لحكم المحكمة الدستورية العليا في قضية عزل الرئيس، فضلا عن قضية محاكمته بتهمة الخيانة العظمي.

ولقد بدأت تتكشف أبعاد أخرى في هذه الدراما، تتعلق بكيف تصرف الرئيس في الطريق تجاه الأزمة ولحظة فرض الأحكام العرفية.

وشيء من هذا كله بدأ يتكشف عن معاناة يون مع تقلب حظوظه السياسية، وخسارة حزبه الأغلبية في البرلمان الكوري، وتحوله إلى "بطة عرجاء" غير قادر على تمرير سياساته بعدما أحكمت المعارضة قبضتها على البرلمان، ووسط هذا كله أحاطت به فضائح زوجته، وتفجرت له شخصيًا وبعض مساعديه اتهامات بالفساد، وخرجت إلى العلن خلافاته مع رئيس حزبه وبعض قياداته.

ووسط هذا الإحساس الخانق بالعزلة أقدم على خطوته الأكثر حماقة في مسيرته بإعلان الأحكام العرفية قبل أن يلغيها بعد ساعات.


والآن بدأت عملية التسريبات، ومحاولات دفنه وحده بمسئولية كل ما حدث، لقد تحول إلى عبء يفر الجميع بعيدًا عنه، وذكرت صحيفة أساهي شيمبون اليابانية منذ أيام أن الرئيس يون سوك يول ذكر الأحكام العرفية بشكل متكرر منذ أبريل  الماضي، تزامنًا مع الانتخابات العامة في كوريا.

ونقلت أساهي عن وزير سابق في حكومة يون تناول العشاء مع الرئيس عدة مرات، أن يون بدأ يستخدم مصطلح "الأحكام العرفية" بشكل متكرر في التجمعات الخاصة بعد الهزيمة الساحقة التي مني بها الحزب الحاكم في انتخابات أبريل الماضي، كما ارتفعت مستويات التوتر لديه واستهلاكه للكحول".

وأفادت أساهي أن يون أصبح متأثرًا بشدة بقنوات يوتيوب اليمينية المتطرفة، وسط انخفاض معدلات الموافقة وانتقادات أسلوب حكمه الأحادي الجانب، وقال مساعد مقرب من الرئيس: "مع ركود معدلات تأييده وتزايد الانتقادات لأسلوبه في الحكم، أصبح الرئيس يون منغمسًا بشكل متزايد في البث اليميني المتطرف على يوتيوب.

 ونصح أعضاء سابقون في مجلس الوزراء يون بمراقبة وسائل الإعلام الرئيسية لقياس المشاعر العامة بشكل أفضل، لكن اقتراحاتهم قوبلت بالرفض، ونُقل عن مسئول مقرب من الإدارة قوله: "مصطلح" القوى المناهضة للدولة "ليس شيئًا يستخدمه السياسيون عادةً".

وقال أحد نواب الحزب الحاكم لصحيفة أساهي: "غالبًا ما تنطوي السياسة على التوفيق بين الآراء المختلفة، وهو ما قد يستغرق وقتًا طويلاً وغير فعال، ونظرًا لكونه قادمًا من خلفية القضاء كمدعٍ عام يركز على الكفاءة، يبدو أن الرئيس يون يكافح من أجل فهم طبيعة السياسة.

ووفقاً للتقرير، كان يون يشرب في كثير من الأحيان في أماكن مثل مقر إقامة الحكومة في سامتشيونج دونج، والعاصمة سيول، ويبدو أن يون كان يشرب ما يصل إلى عشرين كأسًا في الجلسة والواحدة.

وقال الوزير السابق "معظم الناس يملأون أكوابهم حتى منتصفها، لكن الرئيس يملأها حتى الحافة، وأثناء الشرب، كان الرئيس ينتقد السياسيين المعارضين، رغم أنه كان يوجه انتقادات أحيانًا إلى أعضاء الحزب الحاكم أيضًا.

وكشف مساعد سابق للشئون الخارجية من إدارة يون أن جلسات الشرب هذه كانت تستمر غالبًا حتى الفجر، وقال المساعد "حتى أفراد الأمن المتمركزين في مرافق الرئيس أعربوا عن إحباطهم من الساعات الطويلة التي اضطروا إلى تحملها خلال هذه التجمعات في وقت متأخر من الليل".

ويبقى أن "اللعبة السياسية" دوارة، وليس لها أمان، وعواطف الجماهير متقلبة، ورضاها لايدوم، وحتى التفويض الشعبي في النظم الديمقراطية ليس مفتوح المدة، بل يمكن سحبه حتى قبل انقضاء مدة التفويض، إما بدواعي الفشل، وإما من جراء الملل، والرغبة في تجربة أمر جديد، ومن المدهش كثيرًا كيف تنهي القواعد الصارمة للعبة السياسية حياة بعض أعتى السياسيين، مثلما حدث مع ريتشارد نيكسون الضحية الأشهر؛ لعدم قدرته على التلاعب بقواعد اللعب وضبطه وهو يخترقها، ورئيس اليمن الذي وصف الحكم بالرقص فوق رؤوس الأفاعي، وقال علي عبدالله صالح في لحظة مكاشفة صريحة مع النفس والمجتمع، إن حكم اليمن كالرقص على رؤوس الثعابين، وهي مقولة حظيت بالكثير من الإعجاب، إذ أنها مثلت إحدى أهم التجليات السياسية، وحملت وصفًا دقيقًا لمشهد الحكم في بلد تتقاذفه الصراعات السياسية، ومنقسم بين شماله وجنوبه، وفي نهاية المطاف سقط صالح قتيلًا رغم كل مهاراته، وأزيح نيكسون، وينتظر الرئيس الكوري يون إزاحته هو الآخر، ولكن وفقًا للآليات الديمقراطية. 

إلا أن الثلاثة فشلوا في نهاية المطاف، وتمت إزاحتهم بصورة درامية تكشف عن مدى المعاناة والإغراءات، ولحظات عدم الفهم، أو اليأس في أروقة الحكم.

وفي الحالة الكورية جرى تناول الأمر من زوايا عدة، وكيف أن الديمقراطية الكورية قوية وفي أوج عنفوانها، إلا أن ثمة جانبًا مهمًا يتعلق بشخصية بطل هذه الأحداث النادرة في تاريخ الأمم، ويبدو أن يون ونيكسون ثمة رابط مأساوي يجمع بينهما، فقد جرى عزل نيكسون، وهو الوحيد الذي أزيح رغم إنجازاته الكبيرة، وأبرزها إخراج أمريكا من مستنقع فيتنام، والانفتاح على الصين، إلا أن نيكسون ظل يبحث عن حب شعبه، وتطارده شعبية جون كيندي الكاسحة، وعشق الأمريكيين للرئيس الراحل. 

وفي الفيلم الأمريكي الذي يحكي مأساة نيكسون ثمة مشهد يلخص عقدة الرئيس نيكسون.. ففي ليلته الأخيرة في البيت الأبيض، وقف يخاطب صورة كيندي ويسألها: لماذا يحبونك أكثر مني؟! وأنا قدمت لهم أكثر منك!!

وفجأة تأتي زوجته من خلفه لتقول له "هون على نفسك، لقد أخبرهم كيندي بما يتمنون الوصول إليه، وأخبرتهم أنت بواقعهم"..

وأغلب الظن أن يون مثل نيكسون وكثير من السياسيين الواقعيين كثيرًا ما يصدمهم الواقع، وعندما يفتقر الساسة لموهبة التواصل مع الجماهير، ويعتقد أن السياسات المؤلمة ضرورية، وأنه لابد أن يستمر حتى بفرض أحكام عرفية أو التجسس على المنافسين السياسيين، لحظتها يفتقد هؤلاء توازنهم، وتزداد عزلتهم، ويفقدون التواصل مع الواقع، وكسر قواعد اللعبة، وأهمها ثقة الناس في قدرته على الإلهام و الإبحار بأمان في المستقبل.

وفي نهاية المطاف تفرض اللعبة السياسية أحكامها، وتقرر المؤسسة والنظام السياسي من خلال آلياتهما إخراج كل من لا يلعب وفقًا للقواعد، وفي حالة الفشل يحافظ النظام على استقراره ومصداقيته ويرحل الرئيس، سواء عانى أو لم يجد اللعب وفقًا للقواعد أو أي شيء آخر.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: