لم تكن نادية لطفى مجرد نجمة تألقت على شاشات السينما، بل أيقونة جمعت بين الفن والالتزام الإنسانى، فى زمن كانت فيه الأضواء مغرية بالبقاء فى دائرة الشهرة، اختارت أن تحمل رسائل أكبر من مجرد أدوار درامية.
موضوعات مقترحة
من قلب حى عابدين العريق إلى بيروت المحاصرة، كانت رحلتها انعكاسًا لروح نضالية وإنسانية نادرة.
لم تكتفِ بدورها كفنانة، بل انتقلت إلى ساحات النضال، شاهدة على المجازر ومناصرة للقضايا العربية. وبروحها الأصيلة، حملت ذكريات حى عابدين أينما ذهبت، لتؤكد أن الانتماء الحقيقى يتجاوز المكان ليصبح قيمة متجذرة فى الإنسان.
هذه ليست سيرة ذاتية، بل بعض مشاهد من السيرة، كنتُ حاضرًا فى بعضها وشاهدًا فى البعض الآخر.
المشهد الأول: بيروت تحت الحصار، 1982
كان الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى أوجه، وحصار بيروت يخنق المدينة التى تضج بالأنين والصمود معًا، توجهت إلى الفندق الذى كان يستضيف شخصيات مصرية، جاءت من ميناء الإسكندرية إلى بيروت دعمًا للمقاومة هناك، التقيت نادية لطفى، التى بدت كالحلم بحضورها القوى وتفردها. نادتنى قائلة: «يا فدائى، تعالى»، ومن هنا بدأ حديث ممتد لأيام.
لم تكن نادية زائرة عادية، كانت تتجول يوميًا بين مواقع الفدائيين وتعود محملة بالقصص والصور، جمعت بين الجمال والإنسانية، تاركة بصمة فى كل لقاء، كان صوتها وروحها الدافئة تزرع الأمل فى قلوب المقاومين، وتجعل من حضورها رسالة دعم معنوية لا تُنسى.
نادية لطفى لم تكن فقط داعمة للقضية الفلسطينية من بعيد، بل كانت تشارك فى أدق التفاصيل، تتحدث مع الفدائيين، وتساندهم بحضورها القوى، كان وجودها فى بيروت المحاصرة شهادة على شجاعة استثنائية، حيث اختارت أن تكون فى قلب الحدث، محاطة بالخطر والدمار، لم تقتصر أدوارها على التشجيع والدعم، بل قدمت صورة مختلفة عن الفنان الذى لا يقف عند حدود الفن.
المشهد الثانى: الباخرة من بيروت إلى طرطوس
عندما بدأ الخروج المنظم للقوات الفلسطينية من بيروت، كنت ضمن المجموعة الأخيرة التى غادرت على متن باخرة يونانية إلى طرطوس، وسط الأجواء الثقيلة التى خيمت على الجميع، كانت نادية لطفى شعاعًا من الضوء تجولت بين الجميع، بروحها العفوية، تشارك القادة والجنود الأحاديث والذكريات، مما أضفى دفئًا وسط الوداع المر.
على سطح الباخرة، حيث كان المقاومون يتحلقون، استطاعت نادية أن تجعل من اللحظات الصعبة مناسبة للتضامن واسترجاع القصص التى زادتهم إصرارًا، برغم إصرار محافظ طرطوس على توفير نقل خاص لها، رفضت قائلة: «لن أترككم»، صعدت معنا إلى الحافلة، وسط المقاومين، وكأنها جزء من هذا المشهد الذى سيبقى فى ذاكرة الجميع.
خلال الرحلة، كانت نادية تروى القصص، تضحك، وتشارك اللحظات مع الجميع، وكأنها تسعى لإبقاء الروح المعنوية مرتفعة رغم ثقل الرحيل. كان وجودها فى هذه الرحلة بمثابة بلسم يخفف من وطأة الألم، أثبتت نادية فى هذه التجربة أن الالتزام الحقيقى يعنى التواجد فى أصعب اللحظات، حيث يصبح الدعم المعنوى قوة لا تضاهى.
المشهد الثالث: بين صبرا وشاتيلا.. عين العدالة وكاميرا المقاومة
بعد أسبوعين من وصولنا إلى دمشق، وصلتنا أنباء مجازر صبرا وشاتيلا. تحركت نادية لطفى بسرعة لتوثيق الجريمة مع المخرج محمود الخولى، لم يكن الأمر مجرد زيارة، بل جابت الأزقة المدمرة، وثّقت بشاعة المجازر، ونقلت الصور للعالم لكشف الحقيقة.
كانت نادية تُظهر عزيمة استثنائية وهى تنتقل بين الناجين، تستمع لشهاداتهم وتوثق رواياتهم. تحولت إلى صوتٍ يحمل صرخاتهم للعالم، وتعرض الحقائق فى وقت كان كثيرون يحاولون طمسها، تلك اللقطات التى سجلتها كانت بمثابة وثيقة تُدين الاحتلال الإسرائيلى أمام المحافل الدولية.
لم تكن عملية توثيق المجازر مجرد مهمة عابرة بالنسبة لنادية، بل واجبًا إنسانيًا شعرت أنه لا يمكن تأجيله، كانت كلماتها وصورها تعكس روحًا متمردة على الظلم، وقلبًا مؤمنًا بأن الصمت فى وجه القهر هو جريمة بحد ذاته، من خلال صوتها وكاميرتها، أعادت نادية إحياء ذكرى الضحايا، وأكدت أن الإنسانية لا تزال حية.
المشهد الرابع : لقاء فى القاهرة.. استعادة الذكريات
بعد عودتى إلى القاهرة، كان أول ما خطر ببالى هو زيارة من أضاءت تلك الأيام القاسية بروحها وإصرارها، تواصلت مع الكاتبة فتحية العسال، وسرعان ما رتبت لنا لقاءً مع نادية لطفى.
استقبلتنا نادية بابتسامتها المعتادة، تلك التى تحمل دفئًا لا يخبو، وكأنها تحيى بداخلك الأمل مهما كانت الظروف، كان اللقاء أشبه بعودة إلى ذكريات بيروت ومآسى صبرا وشاتيلا، لكنها كعادتها لم تسمح للحديث أن يظل حبيسًا للألم، تحدثنا عن مشاريعها الجديدة، وعن رؤيتها كفنانة وإنسانة للواقع العربى فى تلك الفترة العصيبة.
كانت قد بدأت التخطيط لكتابة كتاب يتناول شهادتها على الأحداث التى عايشتها، لا كمؤرخة، بل كشاهد عيان مليء بالإنسانية والتجربة. تحدثت عن كيف أن الفن ليس فقط وسيلة للتسلية، بل رسالة تحمل القضايا العادلة وتدافع عنها، وهو ما جسدته طوال حياتها.
فى ذلك اللقاء، شعرت أن روحها لم تزل تحمل نفس الحماسة التى عرفتها فى بيروت، تحدثت عن زياراتها للجنود الجرحى خلال حرب أكتوبر، وعن رحلاتها إلى عواصم العالم، وهى تحمل كاميرتها، شاهدة على النضال الفلسطينى ومعاناة أهله، كانت نادية لطفى ترى نفسها جزءًا من تلك الحكاية الكبيرة، التى لم تكن مجرد فنانة ترويها، بل مقاتلة تعيشها بكل تفاصيلها.
كان اللقاء مليئًا بالضحكات والذكريات، لكنه لم يخلُ من لحظات التأمل العميق، كانت كلماتها تحمل عمقًا يعكس تجربتها الطويلة، وشجاعتها فى مواجهة كل ما يمكن أن يثنيها عن قناعاتها.
مع مرور الوقت، أدركت أن نادية لطفى لم تكن فقط رمزًا فنيًا وإنسانيًا، بل كانت مرآة لزمن كنا نحلم فيه بعالم أكثر عدلًا وحرية، ولاتزال ذكراها تلهمنا بذلك الحلم.
المشهد الخامس: فى قلب جاردن سيتى.. بيت من الإنسانية والذكريات
عندما عدت إلى القاهرة فى عام 1988، لم تكن زيارتنا إلى نادية لطفى مجرد لقاء عابر، فى شقتها بحى جاردن سيتى، حيث استقبلتنا بترحابها الدافئ، شعرت وكأننا لم نفترق أبدًا، كانت الشقة تمثل امتدادًا لروحها: بسيطة، أنيقة، ومليئة بالتفاصيل التى تعكس عمقها الإنسانى وارتباطها بالثقافة والفن.
تحدثنا كثيرًا فى ذلك اللقاء عن ذكريات بيروت، وعن حلمها الذى لم يتغير فى أن تظل قضية فلسطين حاضرة فى ضمير العالم العربى، كانت تسألنى عن أحوالى، وعن تفاصيل حياتى بعد سنوات الغياب، وكنت أجد فى حديثها اهتمامًا حقيقيًا يشعرك بأنك تجالس إنسانة استثنائية، لا مجرد شخصية عامة.
مع مرور الوقت، تكررت لقاءاتى معها، سواء فى شقتها بجاردن سيتى، حيث كانت الحوارات تأخذنا إلى أبعاد أعمق عن الفن والنضال، أو فى أماكن عامة، حيث كانت تستمتع بالحديث عن واقعنا وهمومنا المشتركة. كانت نادية لطفى، برغم نجوميتها، تحافظ على بساطة فى تعاملها، تفرض احترامها وحبها على الجميع.
عندما علمت أننى سأنتقل للإقامة فى منطقة باب اللوق، أبدت حماسة كبيرة وشجعتنى كثيرًا، بدأت تحكى عن ذكرياتها فى تلك المنطقة، التى تقع ضمن حى عابدين العريق، حيث ولدت وترعرعت. تحدثت عن تفاصيل الحياة فى تلك الأزقة والشوارع، عن تاريخ المنطقة وأصالتها، وعن جمال الحياة البسيطة التى كانت تميز القاهرة فى تلك الحقبة.
كانت نادية ترى فى باب اللوق أكثر من مجرد حى، بل كان جزءًا من ذاكرتها ووجدانها، أشارت إلى أهمية المكان فى تشكيل شخصيتها، وكيف أن البيئة التى نشأت فيها بين الأصالة والبساطة، أسهمت فى جعلها الإنسانة التى عرفناها جميعًا.
فى كل لقاء، كانت نادية لطفى تنجح فى جعلك تنظر إلى الحياة من زاوية مختلفة بحديثها عن الماضى، وحماستها للحاضر، وأملها فى المستقبل، كانت تلهم كل من حولها بأن الحياة تستحق أن تعاش بصدق وشغف، مهما كانت التحديات.
■ ■ ■
ولدت الفنانة المصرية الشهيرة فى 3 يناير 1937، فى حى عابدين بالقاهرة، ورحلت عن عالمنا فى 4 فبراير 2020، عن عمر يناهز 83 عاما، وكانت واحدة من أبرز نجمات السينما العربية، وشاركت فى العديد من الأفلام المهمة، أبرزها فيلم «المومياء»، للمخرج العالمى شادى عبد السلام، وطوال مسيرتها الفنية لم تتخل عن المواقف الوطنية العربية.
الخاتمة
فى أيامها الأخيرة التى قضتها فى مستشفى القوات المسلحة بالمعادى، حدث بيننا اتصال هاتفى بعد سنوات من الانقطاع، فوجئت بسعادتها الغامرة بالاتصال، لكن ما لمسنى أكثر كان عتابها الرقيق لغيابى الطويل. ألحّت بلطف على ضرورة زيارتى لها فى المستشفى، لكن نفسى لم تطاوعنى، كان من الصعب على أن أراها فى حالة مغايرة للصورة التى حفرتها فى ذاكرتى، سواء فى بيروت تحت الحصار أو فى القاهرة، حيث كانت دائمًا رمزا للقوة والحضور الآسر.
تهربت من الزيارة برغم تكرار طلبها، وربما كان ذلك واحدًا من أكثر قراراتى إيلامًا، عندما غادرت عالمنا وصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها، غمرنى ندم عميق وحزن لا يزال يتجدد كلما تذكرتها، أستعيد ذكرياتها وأدرك كم كانت نادية لطفى إنسانة استثنائية فى كل شىء، بروحها الشامخة وإرادتها التى لا تعرف الانكسار.
وداعًا نادية لطفى، يا من جمعت بين الفن والنضال والإنسانية فى لوحة واحدة، ستظل ذكراك حيّة فى القلوب، لا تغيب أبدًا.