مع بداية العام 2025، يبدو السؤال منطقيًا حول إمكانية عودة تنظيم «داعش» إلى واجهة المشهد الإرهابي، خصوصًا بعد الهجمات التى شهدتها مدينتا نيو أورليانز ولاس فيجاس الأمريكيتان، ورغم الضربات الأمنية القاسية التى تعرض لها التنظيم خلال السنوات الماضية، والتى أسفرت عن انهيار «خلافته» المزعومة وتشتت قياداته، فإن الأحداث الأخيرة تُعيد إلى الواجهة التهديد المستمر الذى يمثله التنظيم، خصوصًا من خلال إستراتيجيته المرتبطة بـ»الذئاب المنفردة».
موضوعات مقترحة
فى ظل هذه التطورات، تبرز أسئلة حيوية حول قدرة المجتمع الدولى على التعامل مع هذا التهديد المتجدد: هل نحن أمام عودة حقيقية للتنظيم؟، أم أنها مجرد محاولات بائسة لإثبات الوجود؟، وذلك فى ضوء سيطرة المعارضة المسلحة على الحكم فى سوريا، وما الذى يتطلبه الأمر، لمنع التنظيم من استغلال هذا الزخم وتحويله إلى موجة عنف جديدة؟.. الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب تحليلًا عميقًا للتغيرات الجيوسياسية والأمنية التى تشهدها الساحة الدولية اليوم، وهو ما نحاول الوقوف عليه مع خبراء السياسة والعلوم الإستراتيجية.
يقول الدكتور جاسم محمد، رئيس المركز الأوروبى لمكافحة الإرهاب، إننا لو تحدثنا عن عودة تنظيم "داعش"، فإن ذلك يرتبط بالتوترات الجيوسياسية فى المنطقة، كون أن "داعش" يطل برأسه كلما كانت هناك حالة عدم استقرار سياسي، وهذا يعنى أن هناك أطرافا إقليمية ودولية، تعيد إحياء هذا التنظيم الإرهابي، وتدفع به للظهور مرة أخرى لكى يكون لها مبرر، إما بالوجود العسكرى أو بزعزعة أمن واستقرار المنطقة.
وأكد أن التطورات التى تجرى حاليًا فى سوريا، يؤكد أن هناك لاعبين إقليميين ودوليين يمكنهم دفع تنظيم داعش للظهور مجددًا خصوصًا فى سوريا البادية، وكذلك أيضًا فى مخيمات الهول، مشيرًا إلى أن هناك مخاوف من تدوير الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، ولاحظنا إقليميًا لدى نقل الكثير من المرتزقة والفصائل المسلحة، وكذلك الجماعات الإسلامية المتطرفة خصوصًا لو تحدثنا عن سوريا وليبيا والسودان، وحتى فى الحرب الروسية الأوكرانية، وفى مناطق نزاعات أخرى، يتم العمل على تدوير هذه الجماعات المتطرفة والمرتزقة والفصائل المسلحة، كجماعات تقاتل بالوكالة.
وألمح إلى أن الربط بين عودة التنظيمات الإرهابية، ووصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض أمر ممكن، كون أن هذه الجماعات المتطرفة بكل أطيافها، أصبحت ورقة ضغط على الحكومات خصوصًا فى منطقة الشرق الأوسط.
لذلك فليس من المستبعد أن يكون هناك تنظيم داعش أو غيره من التنظيمات المتطرفة، أن يقوم بتهديد الحكومات المركزية، وتهديد الأمن والاستقرار، مشيرًا إلى أن وجود هذه الجماعات وظهور هذه التنظيمات المتطرفة يعطى للولايات المتحدة الأمريكية مبررًا للتدخل، والهدف أصبح واضحًا الآن، ألا وهو السيطرة على موارد الطاقة، وكذلك المواقع الإستراتيجية التى تسهل حركة القوات الأمريكية عبر العالم.
أوضح أن الجماعات المتطرفة تستهدف دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والغرب، فمن وجهة نظر هذه الجماعات أن تنفيذ عمليات إرهابية فى الغرب يعطيها الكثير من المصداقية المزدوجة بأنها مقاتلة العدو البعيد، لكن فى الحالة الحالة الأوروبية فوجود شبكات أو أفراد وجماعات من الممكن أن تنشط لكن ذلك يعتمد على مدى قدرة أجهزة الاستخبارات والأمن فى دول أوروبا والغرب فى تتبع هذه العناصر الخطرة، وقدرة هذه الأجهزة على تنفيذ عمليات استباقية ووقائية بتفكيك خلايا إرهابية قبل تنفيذ العمليات. إذًا ذلك يعتمد على قدرة أجهزة الأمن والاستخبارات، وأوروبا والولايات المتحدة قادرتان على فرض الأمن والاستقرار، وما يحدث فى الغرب من عمليات إرهابية هو على غرار عملية "الذئاب المنفردة"، ولا يمكن التكهن به ولا يمكن منعه، أما حدوث عمليات واسعة فى دول أوروبا أو أمريكا، يشترك فيها أكثر من شخص أو أكثر من خلية فإنه أمر مستبعد.
انتقد د. جاسم محمد عملية دفع الجماعات المتطرفة للظهور مجددًا، فيقول: الآن لا نتحدث عن محاربة التطرف والإرهاب، فالحديث أصبح أن المصالح الجيوسياسية هى التى تتحكم وتقود التطرف والإرهاب، وكلنا نعلم من يقود هذه الجماعات.
ويرى أن إمكانية سيطرة الجماعات الإسلامية على بعض الدول العربية، يعتمد على الأنظمة السياسية الموجودة فى دولنا، فعندما تكون أنظمة سياسية رصينة وقائمة على الأسس السياسية والنظام السياسى المستقر، فمن دون شك فإن هذه الجماعات لن تستطيع فرض سيطرتها، فهى تفرض سيطرتها فى المناطق الهشة أمنيًا والدول غير المستقرة.
وأكد أن إسرائيل تعتبر المحرك القوي، فما حدث فى سوريا وربما ما يحدث أيضًا فى بعض دول المنطقة، كما فى ليبيا والسودان والصومال، وفى دول إفريقية عدة، بلا شك أن إسرائيل من مصلحتها زعزعة الأنظمة المستقرة فى منطقة الشرق الأوسط، لذلك ليس من المستبعد أنها تكون من تحرك، أو على الأقل تكون شريكا مع أطراف إقليمية ودولية فى سبيل زعزعة منطقة الشرق الأوسط، وذكر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلى ذلك بصريح العبارة، عندما تحدث عن إعادة رسم خريطة موازين القوى فى الشرق الأوسط.
بوصلة الجيش الأمريكى
وتؤكد الدكتورة عبير كايد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هاورد الأمريكية، أن الإرهاب لم يتوقف حتى يعود، فلقد شهدت فى السنوات الأخيرة الماضية عدة عواصم عالمية وعربية عدة عمليات إرهابية متفرقة.
وأشارت إلى أنه يجب علينا التفرقة بين العمليات الفردية، وما تقوم به بعض الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لدعم الإرهاب الانتقائى، فمن ضمن سياسة الجيش والمخابرات الأمريكية بسط الإرهاب المنظم ضد مناطق إقليمية ودولية بهدف الدخول إليها، وجعل الإرهاب ذريعة لاحتلال الأراضى وإسقاط الأنظمة، وليس فقط كما حدث أخيرا فى سوريا.
وأكدت أن هناك عدة دول حاضنة للإرهاب، وتسعى لاستعادة دورها الإقليمى قريبًا، ولقد عودتنا واشنطن أن تشن حربًا جديدة مع تنصيب كل رئيس وبزوغ إدارة جديدة، لكن القادم يمكن أن يكون حربًا تحاك لدول عربية أخرى، واستغلال ملف المعارضة المقيمين فى الخارج، وإعادة بناء ربما الأحزاب والجماعات الدينية المحظورة، واستغلالهم لتكرار سيناريو سوريا بطريقة أكثر شراسة على مدار أربعة أعوام من رئاسة ترامب المقبلة.
الذئاب المنفردة مصدر تهديد
من جهته، قال الخبير العسكرى والإستراتيجى نضال أبوزيد، إن تنظيم داعش الإرهابى لا يزال قادرًا على إعادة إنتاج نفسه إقليميًا ودوليًا خصوصًا فى ظل ارتفاع منحى الصراعات فى المنطقة، وبروز حدة الخطاب الإعلامى اليمينى المتطرف سواء فى أوروبا أم أمريكا بعد تولى ترامب فى 20 يناير الجاري مؤكدًا أنه على المستوى الإقليمى لا تزال جيوب تنظيم داعش فى البادية السورية فى مناطق الثريا والسخنة وتدمر، وهى تشكل مصدر قلق لكل من الأردن والعراق وسوريا خصوصًا فى ظل انهيار الجيش السورى وانتشار السلاح والذخيرة بشكل غير منضبط، مما قد يعطى مساحة لداعش فرصة إعادة تزويد نفسه فى ظل استمرار الأيديولوجية الرديكالية، وعند زوالها، وعلى أقل تقدير يمكن أن تكون الذئاب المنفردة مصدر إعادة إنتاج التنظيم الإرهابى، كما حدث أخيرا من عمليات فى الولايات المتحدة .
وفيما يتعلق بعوامل عودة التنظيم خلال العام 2025، أكد أبو زيد أنه لا يعتقد أن زخم عمليات تنظيم داعش، سيعود بنفس الوتيرة للأعوام ما بين 2014 – 2018، إلا أن عمليات الذئاب المنفردة قد تشكل تحديًا كبيرًا للعديد من الدول خصوصًا فى ظل صعود اليمين والخطاب الإعلامى المتطرف الذى بدأ يبرز فى المنطقة، وتصعيد إسرائيل حدة عملياتها إقليميًا، ما يعنى أن تنظيم داعش قد يعود مستغلًا بذلك حالة الفوضى الأمنية التى تشهدها المنطقة وحالة الفراغ السياسى التى بدأت تنشأ نتيجة تبلور مرحلة إعادة التركيب فى المنطقة .
وأشار إلى أنه من غير المستبعد أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا هدفًا لعمليات إرهابية، فى ظل تنشيط الذئاب المنفردة التى بدأت تبرز فى أواخر 2024، ما يعنى أن النصف الأول من العام 2025 قد يشهد المزيد من العمليات الفردية التى قد تُسْتَغَلّ من إدارة ترامب كذريعة لتوسيع الخيارات العسكرية والأمنية وتنفيذ أجندات الإدارة الأمريكية الجديدة .
ويؤكد نضال أبو زيد أن من أخرج هذه التنظيمات الراديكالية إلى الحياة مرة أخرى، هو نفسه من أسهم بإضعاف هذه التنظيمات بعد استثمار تحركاتها خلال الأعوام 2014 – 2018 لإعادة رسم خارطة التحالفات الإقليمية، وتطبيق أجندات غربية ما كانت لتكون لولا وجود داعش فى مشهد الشرق الأوسط، وحتى عندما تَشَكَّل التحالف الدولى ضد الإرهاب وحارب تنظيم داعش هو عمل على إضعاف التنظيم وليس القضاء عليه، وكانت الفرصة سانحة لاستغلال حالة انكفاء التنظيم فى منطقة البادية السورية بالقرب من وجود القواعد الأمريكية فى شرق سوريا وفى الريف .
وأشار إلى أنه من غير المتوقع أن يملك التنظيم القدرة على أقل تقدير الآن لإعادة إنتاج نفسه كتنظيم دولى ضخم بقدرة بشرية وتنظيمية كبيرة ليسيطر على دول إقليمية، كما حدث فى سوريا، وفى العراق فى وقت سابق، لكن يمكن للتنظيم أن ينشط بعمليات فردية .
وأكد أبو زيد أن أمريكا وإسرائيل استثمرتا بشكل كبير فى نشاطات تنظيم داعش الإرهابي، لكن لا يمكن الجزم بأن هذه الدول أسهمت فى إنتاج التنظيم وحدها، حيث يُعتقد أن أجهزة إقليمية ودولية، أسهمت فى إنتاج التنظيم من رحم الفكر الراديكالى المتطرف، مستغلين بذلك البيئة الإقليمية والدولية المهيئة، ووجود خزان بشرى قابل على الانحراف نحو الأيديولوجية المتطرفة.
وأكد أيضًا أن هذه التنظيمات الإرهابية لا تنشط ولا تظهر قوتها إلا وقت الحروب، ولإسقاط الأنظمة وقلبها، وتحتاج إلى قيادة وتنظيم ودعم، ولولا الدعم العسكرى واللوجيستى والمادى الأمريكى والأوروبى وبعض دول المنطقة ما عاشت هذه الوحوش الإرهابية يومًا واحدًا.
بيئة خصبة للإرهاب
ويشير إدريس أحميد الباحث فى الشأن المغاربى والدولي، إلى أن ظهور التنظيمات المسلحة مثل "داعش" و"القاعدة" وغيرها يعود إلى مجموعة من العوامل المعقدة والمتشابكة، ولا يمكن اختزالها فى جهة واحدة مثل إسرائيل أو أمريكا فقط، رغم أن بعض التحليلات تشير إلى دور القوى الغربية والإقليمية فى تسهيل أو تمكين بعض الجماعات فى فترات معينة، إلا أن العوامل المحلية والإقليمية تساهم بشكل كبير فى بروز هذه التنظيمات.
وأوضح أنه فى الحالة السورية، أسهمت سيطرة المعارضة المسلحة على جزء كبير من الأراضى السورية فى نشوء بيئات خصبة لظهور التنظيمات الإرهابية، وذلك بسبب الفراغ الأمنى والسياسى الذى تسببت فيه الحرب على سوريا، فالنزاع المستمر جعل من سوريا ملاذًا للجماعات المسلحة من مختلف الأطياف لتحقيق أهدافهم.
وأكد أنه فى النهاية تظل المسئولية الرئيسية على الأطراف المحلية والإقليمية، بما فى ذلك النظام السورى السابق، وقوى المعارضة، مؤكدًا أنه من الممكن أن يشهد العام 2025 تحديات فى مكافحة الإرهاب، لكن هذه التحديات ستكون مرتبطة بمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية، وليس فقط بتولى ترامب الرئاسة من جديد، مشيرًا إلى أن إعلان ترامب أنه سيركز على الاقتصاد وإيقاف الحروب، سوف يشجع المنظمات الإرهابية على الخروج من جديد .