تمكن الاقتصاد العالمي خلال العام الماضي من تجنب الركود ويتجه إلى الاستقرار في العامين الجاري والمقبل، بعد سنوات من الصدمات المستمرة، بدءا من جائحة كوفيد-19 إلى معدلات التضخم والفائدة المرتفعة، مرورًا بالتوترات الجيوسياسية.
وفي حين حققت الاقتصادات المتقدمة قدرًا كبيرًا من التعافي، لم تتمكن الاقتصادات الناشئة والنامية من اللحاق بالركب بعد، كما تواجه البلدان منخفضة الدخل خطر التخلف عن قطار التعافي بدرجة أكبر.
في أحدث توقعاتها عن الاقتصاد العالمي، حذرت مؤسسات دولية من أن الاقتصادات النامية قد تواجه في عامي 2025 و2026 أوضاعًا سلبية خطيرة، ويمكن أن يؤدي ارتفاع درجة عدم اليقين بشأن السياسات العالمية إلى إضعاف ثقة المستثمرين وتقييد تدفقات الاستثمارات والتمويل. وما يزيد من صعوبة الأمر هو تصاعد التوترات التجارية التي تدفع بالنمو العالمي إلى التراجع، كما يمكن أن يؤدي بقاء التضخم مرتفعًا إلى تأخير التخفيضات المتوقعة في أسعار الفائدة.
توقعات متشائمة
توقعات صندوق النقد والبنك الدوليين تشير إلى أن الاقتصاد العالمي ينمو بنسبة 2.7% في عامي 2025 و2026، وهي الوتيرة نفسها التي شهدها عام 2024، مع الانخفاض التدريجي للتضخم وأسعار الفائدة، وعلى الرغم من هذا التحسن، إلا أنه لا يزال أقل بكثير من متوسط بلغ 3.1% والمُسجل في العقد السابق على جائحة كورونا.
أما بالنسبة للاقتصادات النامية، التي تشكل مجتمعة أكثر من 80% من سكان العالم وإجمالي الناتج المحلي العالمي، ستواصل النمو بوتيرة أبطأ مما كانت عليه في العقد السابق للجائحة، أي سيظل النمو ثابتًا عند نحو 4% خلال العامين المقبلين، بيد أن أداء الاقتصادات النامية سيكون أضعف مما كان عليه الحال قبل الجائحة، ولن يكفي لتعزيز التقدم اللازم لتخفيف حدة الفقر وتحقيق الأهداف الإنمائية الأوسع نطاقًا.
اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء
بقراءة متأنية في أول تحليل منهجي يقوم به البنك الدولي لأداء الاقتصادات النامية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، نجد أنه خلال السنوات العشر الأولى من القرن الـ21، نمت الاقتصادات النامية بأسرع وتيرة لها منذ سبعينيات القرن الماضي.
لكن الأزمة المالية العالمية في 2008-2009 التهمت التقدم الذي أحرزته، وبلغت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الاقتصادات النامية نحو نصف مستواها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
ونتيجة للقيود الجديدة على التجارة العالمية خلال العام الفائت، التي تجاوزت خمسة أضعاف متوسط السنوات 2010-2019، هبط النمو الاقتصادي بوجه عام من 5.9% في العقد الأول من القرن الحالي إلى 5.1% في العقد الثاني، ثم إلى 3.5% في العقد الثالث.
وخلال السنوات العشر الأخيرة كان متوسط نمو نصيب الفرد من الدخل في الاقتصادات النامية، باستثناء الهند والصين، أقل بنصف نقطة مئوية مقارنة بالاقتصادات الغنية، وهو ما أفضى إلى تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
أهمية الاقتصادات النامية
تطورت الاقتصادات النامية، التي تحرك 60% من النمو العالمي، في العقدين ونصف العقد الماضيين بصورة لافتة وتزايدت أهميتها في الاقتصاد العالمي، وأصبحت رقمًا مهمًا على صعيد الإنتاجية وسلاسل التوريد.
وتشكل الاقتصادات النامية حاليًا نحو 45% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، مقابل 25% مما كانت عليه في بداية القرن الحالي، كما زادت مستويات ترابطها والاعتماد المتبادل فيما بينها إذ إن نحو 40% من صادرات السلع والمنتجات تذهب إلى اقتصادات نامية أخرى، أي ضعف النسبة المسجلة خلال عام 2000، كما باتت الاقتصادات النامية أيضًا مصدرًا مهمًا لتدفقات رأس المال العالمية وتحويلات المغتربين والمساعدات الإنمائية إلى الاقتصادات النامية الأخرى، فبين عامي 2019 و2023، شكلت هذه الاقتصادات 40% من التحويلات العالمية صعودًا من 30% في العقد الأول من هذا القرن.
وبالتالي نلاحظ التأثير الكبير لهذه الاقتصادات الآن تأثير على نواتج النمو والتنمية في الاقتصادات النامية الأخرى، فعلى سبيل المثال، تؤدي زيادة قدرها نقطة مئوية واحدة في نمو إجمالي الناتج المحلي في أكبر 3 اقتصادات نامية هي الصين والهند والبرازيل إلى زيادة تراكمية في إجمالي الناتج المحلي بنحو 2% في الاقتصادات النامية الأخرى بعد ثلاث سنوات.
بيد أن هذه التأثيرات لا تمثل سوى نصف تأثير النمو في أكبر 3 اقتصادات هي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان؛ لذا يمكن القول إن الرفاهة في الاقتصادات النامية لا تزال مرتبطة بقوة بالنمو في الاقتصادات المتقدمة الثلاثة الكبرى.
الطريق نحو التعافي
في عالم يكتنفه الغموض على مستوى السياسات والتوترات التجارية، تحتاج الاقتصادات النامية إلى إجراءات فعالة على المدى البعيد لاقتناص الفرص غير المستغلة من أجل تحقيق التعاون عبر الحدود، وستكون البداية الجيدة هي السعي إلى إطلاق شراكات إستراتيجية تجارية واستثمارية مع الأسواق سريعة التوسع في البلدان النامية الأخرى.
كما تحتاج الاقتصادات النامية إلى سياسات جديدة تركز على الإصلاحات المحلية لتسريع وتيرة الاستثمارات الخاصة، وتعميق العلاقات التجارية، وتشجيع الاستخدام الأكثر كفاءة لرأس المال والمواهب والطاقة.
ويطرح تقرير البنك أيضًا خيارات كثيرة متاحة أمام الاقتصادات النامية لتحسين آفاق نموها، على الرغم من الأوضاع السلبية والمعاكسة، فباتباع السياسات الصحيحة، يمكن لهذه الاقتصادات تحويل بعض التحديات إلى فرص كبيرة، كما يمكن أن تؤدي تلبية الاحتياجات الخاصة بمرافق ومشروعات البنية التحتية، وتسريع وتيرة مواجهة التحول المناخي، وتحسين رأس المال البشري إلى تحسين آفاق النمو، وفي الوقت نفسه المساعدة على تحقيق الأهداف المناخية والإنمائية، وينبغي لجميع البلدان أن تعمل معًا لتعزيز حوكمة التجارة العالمية، بدعم من المؤسسات متعددة الأطراف