(ورجعتْ إسرائيل من عدوانها.. بخفيّ حُنين) بعد خمسة عشر شهرًا من القتل والحرق والقصف والدمار والحصار والتشريد والتجويع والممارسات البربرية التي مارسها الكيان الإسرائيلي المحتل داخل قطاع غزة سكتت أصوات المدافع والطائرات بعد بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار داخل قطاع غزة بعد نجاح الوسطاء من (مصر وقطر والولايات المتحدة) في التوصل لاتفاق بين حركة حماس وإسرائيل في الأسبوع الماضي، وفي الحقيقة إن هذه الهدنة بمثابة طوق النجاة للأبرياء من النازحين الفلسطينيين الذين عانوا على مدار الفترة الماضية الألم والموت وخسارة الأحباب والتدمير والقتل الممنهج ونقص الغذاء والمساعدات الطبية وأبسط أنواع الإغاثة؛ نتيجة هذه الحرب الطاحنة، خاصةً أن هذه الحرب وصفت بأنها أخطر عملية قتل وإبادة حدثت في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ حيث تم استشهاد ما يقرب من خمسين ألف شخص فلسطيني، وإصابة نحو 160 ألفًا آخرين، أكثرهم من الأطفال والنساء والشيوخ!!
ونحن الآن في حاجة ملحة لوقف الحرب، وإعادة الأمل في نفوس نحو 2.3 مليون شخص في غزة والذين قد نزح أغلبهم عدة مرات من غزة، خاصة أن وقف إطلاق النار هو الطريقة الوحيدة للتخفيف من معاناة النازحين في قطاع غزة مع فصل الشتاء؛ لإنقاذ أرواح ملايين من البشر، وهذا ما تدركه القيادة السياسية المصرية منذ الوهلة الأولى، وقد لعبت مصر، منذ بداية اشتعال فتيل الأزمة في غزة، دورًا كبيرًا للعمل على إعادة استقرار المنطقة وقطاع غزة، وعدم توسيع رقعة العدوان الإسرائيلي، والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، والتصدي لمخططات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، ومما لا شك فيه أن هذا الاتفاق هو نجاحٌ حقيقيٌ لمؤسسات الدولة المصرية كافة، التي برهنت على قدرة المفاوض المصري في إحداث التغيير والتوصل لهذا الاتفاق، وإتمام صفقة تبادل الأسرى، ودخول المساعدات الإنسانية وإقناع الطرفين بضرورة التنفيذ الفوري، مع طرح الرؤية المصرية للحل منذ نهاية العام الماضي، وإننا هنا نؤكد أن أكثر من 95% من بنود الاتفاق النهائي بين الإسرائيليين وحماس كان من صناعة الورقة المصرية.
إن الدولة المصرية، رغم كل ما يحاك لها، تؤكد في كل المواقف أنها ركيزة أساسية في المنطقة ولا يمكن تجاهلها، وهذا باعتراف الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته (جو بايدن)، وقد أكد هذا الأمر في اتصاله الأخير بالرئيس عبدالفتاح السيسي لتقديم الشكر بعد النجاح في الوصول للاتفاق.
والمراقب للمشهد السياسي يدرك جيدًا أن الدولة المصرية تعمل على تحقيق وترسيخ السلام؛ بصفتها قوى إقليمية تسعى للسلام والاستقرار، و إن كافة المواقف المصرية ورؤية الرئيس السيسي الثاقبة، تؤكد منذ البداية ضرورة إحداث سلام حقيقي، وإقامة دولة فلسطينية تعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن:
هل ستصمد الهدنة والاستقرار والسلام المنشود، ولن تعود الحرب مرة أخرى؟
ونحن بدورنا نأمل أن تستمر هذه الهدنة وتنجح في جميع مراحلها، وألا تتحول لهدنة التقاط الأنفاس، في ظل وجود مخاوف من لجوء حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، على غرار مراتٍ سابقةٍ، بنقض العهد بافتعال أي أزمة، والعودة للحرب مرة أخرى، خاصةً بعد عملية الضغط الحالية من اليمين المتطرف الإسرائيلي، ووصفهم هذه الهدنة ووقف الحرب بأنها هزيمة لإسرائيل، ونهاية للحلم الإسرائيلي بالقضاء الفعلي على حماس.
إن الشغل الشاغل الآن لا يكمن في مرحلة تبادل الأسري فحسب؛ ولكن بضرورة وضع حد لهذا الصراع، مع ضرورة قيام حماس والفصائل الفلسطينية بإعلاء المصلحة العامة للشعب الفلسطيني، وتقريب وجهات النظر مع السلطة الفلسطينية، وتحقيق المصالحة الفلسطينية ضمانًا لوحدة الصف الفلسطيني، والتخلي عن فكرة إقامة دولة إسلامية بغزة.
لقد أصبح الوضع الآن محتاجًا إلى التزامٍ سياسيٍ من كافة الأطراف، وقيام المجتمع الدولي والمنظمات الدولية بدورها الحقيقي تجاه القضية الفلسطينية، مع تخلي الإدارة الأمريكية عن الدعم اللامحدود للإسرائيليين على حساب الفلسطينيين، وإننا لننتظر ماذا سيفعل الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب فيما هو قادم؟! وهل ستحدث ولايته تغييرًا من عدمه؟!
إن انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة إلي منطقةٍ عازلة بطول القطاع، وعودة النازحين الفلسطينيين إلى ديارهم، مع زيادة حجم المساعدات، ووضع خطة لإعادة الإعمار، وتقديم كافة الدعم، الأمر الذي يحتاج إلى دعمٍ دوليٍ كبيرٍ وسريعٍ؛ لتوفير أدنى مقومات الحياة لهذا الشعب الأبي الصامد، الذي رأى من القهر والظلم وعانى من العدوان والبطش والتنكيل ما لم يره أحدٌ على وجه الأرض.
إننا نؤمن أن صمود الشعوب في نيل الحرية والعزة والكرامة واستلاب الأرض المنهوبة واسترداد الحق المغتصب، فضلًا عن أنه حقٌ مشروع، فهو في حد ذاته نصرٌ وتقدمٌ وثبات؛ فالألمان قديمًا قد حولوا (ستالينغراد) إلى أنقاض وأطلال بعد قصف عنيف ومتواصل!! وفي النهاية خسروا معركة غيرت مسار الحرب العالمية بسبب صمود المدينة، وإننا لنقرر أنه لمن الواجب على جميع قوى النزاع، وعلى الأطراف المعنية بإرساء دعائم أسس السلام بالمنطقة، ضرورة العمل على استمرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإدخال المساعدات، وإيجاد حل جذري للأزمة بحل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، تعيش جنبًا إلى جنب مع الإسرائيليين.
وإننا لنؤكد أن التحركات السريعة من كافة مؤسسات الدولة المصرية، ورفع درجة الطوارئ بالمؤسسات المعنية لاستقبال المصابين وتقديم العلاج للفلسطينيين ودخول المساعدات عبر البوابة المصرية، كل ذلك يبرهن أن القضية الفلسطينية هي في قلب الدولة المصرية، وأن القيادة السياسية المصرية تحمل على عاتقها هذه القضية بما يحافظ عليها، وأنها وقفت بالمرصاد لتصفية القضية الفلسطينية نهائيًا وتهجير الفلسطينيين، وتحملت كافة تبعات هذا القرار.
وإننا لنؤكد أيضًا أن العملية العسكرية التي قامت بها إسرائيل على مدار أكثر من عام لم تؤتِ بثمارها، كما حددت إسرائيل وقادتها، وعلى رأسهم رئيس وزراء الاحتلال، الذي وصف ذلك العدوان بالحرب المقدسة، ولقد صدق الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، (غيورا إيلاند) حين صرح في تقرير صحفي نشر بصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية في يناير من العام الماضي عندما قال: "دفعنا ثمنًا باهظًا لشيءٍ سيكون بلا معنى ولا قيمةَ له خلال وقت قصير"، وبالفعل فإسرائيل لم تستطع القضاء على حماس، أو فصائل المقاومة الفلسطينية، أو حتى تحرير الأسرى، أو تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الغزاويين، بل إنها في النهاية رجعت من حربها وعدوانها على غزة كما جاء قديمًا في المثل العربي (رجع بخُفيّ حُنين).