Close ad

"نبتدي منين الحكاية"؟!

19-1-2025 | 13:56

ثواب الأعمال، لا يعلمه إلا الله، والنِيَّةُ جوهر هذا الثواب، وهي الغالبة دوماً، والمُرجحة باستمرار، فنِيَّةُ المُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ.. 

إذا أردتَ أن تعرف، لماذا تعلو وتعظُم حسنات البعض، فيما تهبط وتتضاءل حسنات آخرين؟ رغم أن البادي من عظائم الأعمال، قد يكون في غير قليل من الأحيان، في صالح هؤلاء الآخرين، الذين لمعت صورهم، وتعالت أصواتهم! إذا أردت أن تعرف، فعليك أن ترجع إلي أصل الحكاية! حكاية العدالة المطلقة، بين البشر، كل البشر، في كل زمان ومكان، حكاية موازين الناس، وموازين رب الناس، حكاية الجنة التي فتحت أبوابها، لرجلٍ سقى كلباً، والنار التي فتحت أبوابها، لامرأةٍ حبست هرة! حكاية الغني المترف، والفقير المعدوم، فكثير من الناس يقولون: لو كُنا من أهل الجاه والمال، لفعلنا كذا وكذا! ولو سألتهم، ماذا قدمتم؟ لأجابوا، في صعيد واحد، متعجبين، وماذا عندنا حتى نقدم! إحنا على الله حكايتنا! 

وردُ القرآن الكريم، لا يتأخر أبداً، فمن بلاغته وإعجازه، وكماله وجماله، وروعته وإبداعه: 

لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍۢ مِّن سَعَتِهِۦ  وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ  لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا..

قال ربنا جلت قدرته (سَعَة) ولم يقل (مال) والمعنى القريب جداً للفهم، أن المراد بالسَعَة، هو المال، ويدعم ذلك التأويل ويقويه، كلمة (لِيُنفِقْ) فقد دأب الناس على أن الإنفاق، إنما يكون للمال. 

والحقيقة مغايرة تماماً لهذا التأويل! إذ لو كان المراد حقاً، هو (المال) لاستخدم الله تعالى، كلمة (مال) مباشرةً، ولقال سبحانه: لِيُنفِقْ ذُو (مالٍ) من (مالِه)! 

ومع التسليم التام (بأن الله تعالى أعلم بأسرار كتابه) أري أن المقصود بالإنفاق، ليس المال وحده، وإنما كل (مَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ) للإنسان، من مال وغيره.. فَمَنْ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ، الابتسامة الجميلة، فلينفق منها.. و مَنْ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ، الكلمة الطيبة، فلينفق منها.. ومَنْ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ، الذكر والاستغفار، فلينفق منهما.. ومَنْ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ، القدرة علي السعي للإصلاح بين الناس، أو قضاء حوائجهم، أو تذليل العقبات أمامهم، فلينفق .. 

وإجمالاً، مَنْ كانت سعته في هذه الأشياء، فلينفق منها، وبذلك، يصبح المطلوب من الإنسان، أن ينظر، أين وسع الله عليه، ليكون ميدان إنفاقه وعطائه.. 

وهنا تتجلى عدالة السماء، في أسمى معانيها، فالفقير المطحون، يستطيع أن ينفق، وربما بزيادة عن الغني الميسور! كيف هذا؟ هب أن رجلاً يمتلك مليار جنيه، أنفق من هذا المال، في سبيل الله، عشرة ملايين، بحسبة بسيطة، هو أنفق (واحداً) بالمائة فقط مما آتاه الله! 

وفي المقابل، هذا مسكين، لا يملك مالاً على الإطلاق، لكنه طيب القلب، نقي السريرة، حَسن الخُلق، لين الجانب، جابر للخواطر، ضحاك بسام، يوزع هذه العطايا كاملةً، على جميع من يلقاه، مَنْ عرفه منهم، ومَنْ لم يعرفه، إذن، هو ينفق (مائة) في المائة مما آتاه الله! يقيناً لا يستويان.. 

وتأمل عبقرية الدقة القرآنية: وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُۥ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ.. فلو قُدِرَ عَلَيْهِ الرِزْقُ، لدرجة انعدام وجود الدرهم والدينار، على الإطلاق، فكيفَ، وكما جاء في النص القرآنيّ، يطالبه الله تعالى بالإنفاق؟ إلا إذا كان الإنفاق المراد، لشيء مختلف عن المال، وكانت وجوه هذا الإنفاق متعددة، ما المال إلا جزء يسير منها. 

وتأمل أيضاً (ءَاتَىٰهُ) ولم يقل (أعطاه) والفارق بينهما كبير، فالعطاء (بذل مجهود) إنما الإيتاء (فيض جود) الإيتاء منحة وهدية من الله، يعطيها لمَنْ شاء، كيفما شاء.

ولأنه الخالق الأعلم بشئون عباده، وزع الإيتاء بدقة، تعجز عنها إدراكات البشر، ليأخد كل مخلوق، حقه كاملاً، في الدنيا، قبل الآخرة.. 

وسُنةُ المصطفى ﷺ أعظم تفسير للقرآن الكريم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ.. لاحظ (تَسَعُوا) من نفس عائلة (ذُو سَعَةٍ)؛ وهُنا تتجلى عبقرية محمد (صلى الله عليه وسلم) في تأكيده أن الإنسان بماله، لا يسعُ إلا القليل من الناس، وإنما بأخلاقه وابتسامته، يستطيع أن يسعَ الدنيا كلها. 

ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ (الأموال) بالأجور (بالدَّرَجَاتِ العُلَى)، هكذا شكي فقراء المسلمين، إلي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكانت دعواهم قائمة علي أنهم يؤدون الفرائض، مثلهم تماماً، لكنهم لا ينفقون في سبيل الله مثلهم. 

هُنا صحح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم المعنى، وقال لهم: أَفلا أُعَلِّمُكُمْ شيئًا تُدْرِكُونَ به مَن سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ به مَن بَعْدَكُمْ؟ وكان هذا الشيء، تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، خلف كل صلاة!  قالوا فقط يا رسول الله؟ قال نعم! وبهذه الأمور البسيطة؟ لا ندرك فحسب، بل نسبق؟ نعم! إذن صدق من زكاك، وقالَ فيكَ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.. 

أنت أيها الإنسان، في نفسك دولة قائمة بذاتها، خيرها عظيم، ورزقها وفير، وما عليك إلا أن تبحث عن كلمة السر في حياتك، قد تكون بسيطة وصغيرة، قد تكون مجرد ابتسامة، تبعثُ على الارتياح، وتبلسمُ الجراح، لكنها على بساطتها وصغرها، كبيرة النفع، عميقة الأثر، عظيمة الأجر.
 
هذه هي الحكاية، ومن هُنا نبدأها!!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة