حدث ما توقعته منذ أكثر من عام مضي..
ففي أعقاب السابع من أكتوبر 2023 كتبت مقالاً حول ما حدث، وتابعته بمقالات أخرى بعد قرار الجيش الإسرائيلي بغزو قطاع غزة بريًا. وقلت إن هذه الأحداث ستؤول فى النهاية لتفكك حكومة اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو، ومعها سوف ينقسم الداخل الإسرائيلي على ذاته، وأن الخسائر الإسرائيلية إذا سارت بنفس تلك الوتيرة، فسوف يكون هذا إيذانًا بقيام العد التنازلي لزوال إسرائيل برمتها في غضون سنوات.
وها هي الأحداث قد وصلت إلى نهاية مسدودة أمام إسرائيل وحكومة نتنياهو.
وسرعان ما ستنزلق الأرض من تحت أقدامهم ليسقطوا فى هاوية تبتلعهم للأبد خلال فترة لن تطول.
توقيع تحت التهديد
لم يكن فى نية نتنياهو أن يمرر الاتفاق بينه وبين المقاومة الفلسطينية بخصوص وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، غير أن تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غيَّر المعادلة كلها..
لقد أكد موقع إكسيوس الأمريكي أن مبعوث ترامب للشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، رجل الأعمال اليهودي الذي لا يتمتع بأية مهارات دبلوماسية، والذي أصر على إجراء مقابلة مع حكومة نتنياهو رغم اعتذارها بسبب أعياد السبت هو السر وراء إبرام الاتفاق.
لقد قام ويتكوف بالضغط على نتنياهو لقبول توقيع اتفاق الهدنة مهددًا بغضب ترامب إذا تأخر التوقيع أو تأجل إبرام الصفقة، وأن الجحيم الذي توعَّد به ترامب ربما نال إسرائيل بعض منه إذا أصر نتنياهو على التمادي فى الحرب.
هكذا اضطر نتنياهو أن يرضخ للضغط الأمريكي مكرهًا، وهو يعلم أن توقف الحرب يهدده هو شخصيًا بأكثر من سبيل: فهناك قرار المحكمة الجنائية الدولية، وهناك الغضب الشعبي ضده، والقضاء الإسرائيلي الذي يحاكمه، ووزراء اليمين الذين يهددون بالانسحاب حال توقيع الاتفاق وعلى رأسهم سموتريتش وبن غفير، وهو ما قد يتسبب فى إسقاط حكومة نتنياهو، وتلك هي أشد مخاوفه التي يخشى تداعياتها..
في السابق استطاع نتنياهو التنصل من كل تلك التهديدات بعدة حجج: تارة متذرعًا بحرب لبنان أو تهديدات إيران، أو متحججًا باجتماعات الحكومة، أو العملية الجراحية التي أجراها تحت الأرض خوفًا من صواريخ الحوثي.
أما الآن وقد زالت كل الحجج والذرائع فلم يعد أمامه إلا المثول أمام هيئة المحكمة الإسرائيلية التي توشك أن تدينه بعدة تًهم.
الواضح جدًا للعيان أن ترامب لم يعد راضيًا عن أداء الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو، إنها مجرد ساعات باقية على تنصيب ترامب رسمياً كرئيس للولايات المتحدة، ولن يتعاطف ترامب مع نتنياهو كما حدث فى السابق، فلا شك أن انشغاله بكارثة حريق لوس أنجلوس، بخلاف قضايا أخري كثيرة خارجية وداخلية أهم من عناد نتنياهو وصلفه.
معني هذا أن حكومة إسرائيل القادمة سوف تتغير سياساتها فى ظل حكم ترامب، أي أن الأمر ليس مجرد صفقة مؤقتة، بل هو في رأيي تأسيس لمرحلة سياسية جديدة في فلسطين.
فرحة عارمة
بمجرد أن تسربت أخبار إبرام الصفقة إذا بالفرحة تعم أرجاء المعمورة، لاسيما فى غزة وفلسطين.
تهليل الرجال وسجود النساء شكرًا لله ورقص وغناء أطفال غزة فرحًا بتوقف الحرب وتوقف طنين الدرونز.
ساعات وبدأت قوافل المساعدات والشاحنات المحملة بالمدد تتقاطر على الحدود بين مصر وغزة.
الاتفاق ينص على عدة بنود رئيسية لمسودة الصفقة التي تنقسم لثلاث مراحل، كل مرحلة تبلغ 42 يومًا، فخلال المرحلة الأولى يتم تعليق العمليات العسكرية مؤقتًا مع انسحاب القوات الإسرائيلية شرقًا إلى حدود غزة، بما فى ذلك التراجع عن محوري نتساريم وفيلادلفيا، وفتح معبر رفح البري، كما تشمل المرحلة الأولى تعليق مؤقت للطيران الإسرائيلي فوق قطاع غزة 10 ساعات يوميًا، و12 ساعة أثناء الإفراج عن الرهائن، سيحدث هذا تزامناً مع عودة النازحين لمناطق سكنهم ومع دخول المساعدات الإنسانية للقطاع.
اليوم السابع للمرحلة الأولى سوف يتم فيه انسحاب الجيش الإسرائيلي تمامًا من شارع الرشيد مع تفكيك المواقع العسكرية في تلك المنطقة، ثم في اليوم الثاني والعشرين سوف تنسحب القوات الإسرائيلية من وسط قطاع غزة.
وأما عن تبادل الأسري، فسوف يتم إطلاق سراح 33 أسيرًا إسرائيليًا خلال المرحلة الأولى أكثرهم من النساء والأطفال وكبار السن، ثم فى اليوم السادس عشر من الصفقة سوف يتم الاتفاق على الدفعة الثانية من تسليم الأسري الإسرائيليين من الرجال المدنيين والعسكريين، مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين قد يصل في مجمله إلى 1000 أسير فلسطيني، من بينهم قدامَي الأسرى والمسجونون على ذمة أحكام بعضها يصل للمؤبد.
ردود الأفعال خارج وداخل فلسطين المحتلة تفوق الوصف، الجميع رحب بتلك الخطوة التي من شأنها أن تمهد لفترة طويلة من السلام فى منطقة الشرق الأوسط، غير أن النتيجة الأهم في رأيي أن نتيناهو سيكون هو أول ضحايا هذا الاتفاق، وأن فى انتظاره قائمة طويلة من الإدانات فى الداخل والخارج سوف تكون هي السبب في وصول تاريخه السياسي إلى محطة النهاية.
ما بعد الصفقة
أما نتنياهو فسوف يبحث عن أي حرب جانبية يتهرب بها من المحاكمات والملاحقات القضائية، إما حرب ضد اليمن أو سوريا أو إيران، وهو أسلوب لن ينطلي على أحد؛ خاصةً بعد أن يتولى ترامب رئاسة أمريكا رسميًا؛ لأن ترامب يريد التفرغ للشأن الداخلي والاقتصادي، ولن تلائمه حكومة نتنياهو المتعطشة للدماء بلا طائل.
وأما غزة فسوف تلملم جراحها وتعود بأبنائها أقوى مما سبق، وسوف تعيد بناء ما هدمه الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
لقد سطرت غزة ملحمة من الصمود على مدى 467 يومًا من العدوان الإسرائيلي عليها، بينما أهل غزة يعانون ويلات الحرب ونيران القصف ومرارة الفقد وآلام الجوع والبرد، كل هذا صار من الماضي، وبات الأمل يشرق على وجوه أهل غزة بعد توقيع الصفقة التي تأخرت كثيرًا.
وأما المستوطنون الإسرائيليون فسوف يتنفسون الصعداء، بعد شهور قضوها فى الملاجئ تحت الأرض فرارًا من صواريخ غزة واليمن.
وأما الجنود الإسرائيليون فلن يكون إقناعهم بالعودة لحمل السلاح سهلًا، بعد أن يعودوا لأعمالهم وحياتهم المدنية، وبعد أن يختلطوا بجرحى الحرب ويروا معاناتهم.
الضفة الغربية هي الهدف القادم أمام إسرائيل التي سيكون عليها أن تقنع المستوطنين النازحين من الشمال والجنوب للعودة إلى المستوطنات التي تم إخلاؤها، وإذا لم يقتنعوا بالعودة، فسيكون عليها البحث عن أماكن جديدة لبناء مستوطنات أخرى، وسوف يستمر الصراع ويتوسع كنتيجة لما ستفعله إسرائيل لتسكين الداخل الإسرائيلي، والبحث عن وسائل لتضميد الجراح الكثيرة النازفة اقتصاديًا ونفسيًا وسياسيًا واجتماعيًا..
تهديدات نتنياهو بأن إيقاف الحرب على غزة هو إيقاف مؤقت، وأن عودة اشتعالها يظل قائمًا، هي تهديدات فارغة لن تقف على سيقان؛ أولًا لأن حكومته نفسها مهددة بالتفكك، وثانيًا لأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تدعم إسرائيل بنفس القوة إذا عادت للحرب، وثالثًا لأن الجنود والضباط الإسرائيليين سيرفضون العودة وستحدث أزمة في الجيش، ورابعًا لأن الشعب الإسرائيلي لم يعد يشجع الحرب بعد كل ما عاناه سابقًا، وخامسًا لأن عودة الحرب معناها عودة الصراع الإقليمي بأشد مما سبق، وقد يتكرر ما حدث فى 7 أكتوبر 23، وقد يمتد الصراع إلى مناطق جديدة داخل وحول فلسطين المحتلة، وهو الأمر الذي سيقف ضده المجتمع الدولي بأسره.
هنيئًا لغزة صمودها أمام عدو غاشم ارتكب في حقها جرائم إبادة أدانتها المحاكم الدولية، فظلت غزة رغم كل شيء ثابتة راسخة رسوخ الجبال.
[email protected]