قيد الله للخلافة الأموية العديد من القادة الذين جعلوا منها أكبر دولة إسلامية عرفها التاريخ من حيث الرقعة والمكان، فقد وصلت فتوحاتها من الصين شرقًا إلى فرنسا غربًا، بعض هؤلاء القادة كان من البيت الاموي نفسه، ومن أشهر هؤلاء القادة، مسلمة بن عبد الملك برن مروان.
موضوعات مقترحة
لقبه البعض بـ"الجرادة الصفراء"؛ لاكتساحه كل عدو أمامه، فهو قاهر الخزر والبيزنطيين، ولو تولى الخلافة لطال عمر الدولة الأموية.
نشأته
هو أبو الأصبغ مسلمة بن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي، وقد وُلد في مدينة دمشق عام 66 هـ/ الموافق 685م، وكان يُكنى بأبي سعيد وأبي الأصبغ.
في صغره تعلم القرآن واللغة والأدب، وكذلك تدرب وأتقن كل ما يتعلق بالمهارات العسكرية من المبارزة والفروسية وأتقن استعمال مختلف الأسلحة والتخطيط والقيادة، وكان أستاذه والمشرف على تدريبه هو عمه محمد بن مروان، الذي كان قائدًا عسكريًا كبيرًا وواليًا على الجزيرة الفراتية وأرمينيا، وبدأ القائد محمد بن مروان بأخذ ابن أخيه مسلمة معه في حروبه في عام 703م/ 83م.
أول الحروب
في عام 86 هـ/ الموافق 705م، تولى مسلمة بن عبد الملك بنفسه قيادة أحد الجيوش الأموية لغزو أراضي الدولة البيزنطية، وقد أظهر كفاءة عالية في القتال، وكذلك ظهرت فيه حماسة عالية للبقاء في أراضي العدو، حيث كان يتميز عن غيره بأن الحملات العسكرية بالنسبة له غير متقطعة، بل تستمر الحملة الواحدة لزمن طويل، وما أن تنتهي حملة حتى يبدأ حملة عسكرية أخرى بأسرع وقت، حيث قام بحملة أخرى عام87هـ/ 706م.
فتح طوانة.. أول إنجازات فارس بني مروان
يعتبر فتح طوانة أول إنجاز يحققه مسلمة، حيث في عام88هـ/ 707م قاد مسلمة بن عبد الملك الجيش الأموي، ودخل الأناضول وكان عازمًا على غزو بلاد الخزر، ولكن أتته رسالة من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يأمره بتحويل الحملة إلى جهة البيزنطيين، فسار مسلمة بجيشه وحاصر مدينة طوانة.
وفرض حصارًا عليها وحاول تدمير سورها، وفتح جزء من السور، ولكن إستطاع جيش طوانة منع الجيش الأموي من الدخول، وكان أمل الجيش البيزنطي في طوانة أن يأتي الشتاء فينسحب مسلمة، ولكن أتى الشتاء وإنقطع مؤن الجيش الأموي، وطلب قادة الجيش الأموي من مسلمة أن ينسحبوا ولكن مسلمة رفض واستكمل الحصار.
ومضى الشتاء ومسلمة يحاصر المدينة، وأمر جيشه بأكل الخيول بسبب انقطاع المؤن، وتجدد الأمل حينما تم القبض على رسول من طوانة مرسل إلى الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني، ومذكور في رسالته معلومات مؤكدة بأن طوانة أصبحت ضعيفة جدا وأنها ستسقط إن لم تأتي لها النجدة.
زاد مسلمة من نقب سور المدينة، وأصبح جنوده يحفرون ويهدمون جزءً من السور فاستطاعوا إحداث نقب بالجدار فدخل الجندي يعقوب بن عبد الله الأنصاري إلى طوانة من ذلك النقب وقاتلهم لوحده فقُطِعت إحدى قدميه، وبقي قائماً على تلك الحالة يقاتلهم على قدم واحدة، ثم دخل إخوانه الثلاثة وكبروا ونادوا الجيش فدخل من النقب وفتحوا باب طوانة فهزموا البيزنطيين، وتم فتح المدينة.
ومِن الأمثلة على شدة المعاناة التي قاساها الجيش الأموي في الحصار ما حدث مع أحد الجنود من قبيلة قضاعة عندما وصله خبر ولادة إبن له في يوم الفتح فأخبر الجندي مسلمة بن عبد الملك بالأمر، فسأله: «ما سميته ؟»، فرد الجندي: «سميته الفرج؛ لما فرج الله عنا في هذا اليوم بالفتح»، فقال مسلمة: «أحسنت وأصبت»، وهذا الطفل هو أبو فضالة فرج بن فضالة بن النعمان بن نعيم التنوخي القضاعي الذي لمّا كبر تولى بيت المال في عهد الخليفة العباسي محمد المهدي.
ولايته على الجزيرة وأرمينيا
في عام 88هـ/ 709م قام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بمكافئة أخيه الأمير مسلمة بتعيينه واليًا على الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان، ومنحته قيادة هذه الولايات سيطرة كاملة على الحدود الشمالية الغربية للدولة الأموية، ودخل القوقاز في عام91هـ/ 710م، سار بجيشه إلى باب الأبواب مدينة دربنت وفتحها، وقاد مسلمة عدة حملات ضد البيزنطيين، ففي عام 92هـ/ 711م غزا مسلمة أرضهم وفتح ثلاثة حصون وفي سنة 93هـ/ 712 قام بفتح سندرة ودمر غلاطية وأماسيا، وقام بفتح ملطية عام95هـ/ 714م، وفي عام96هـ/715م انتصر على البراجمة وفتح حصني "الحديد وسرورا".
حصار القسطنطينية
في عام97هـ/715م قرر الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أن يقود الجيش بنفسه ليفتح القسطنطينية ولكن أصيب الخليف بمرض شديد، فمنح قيادة الجيش لأخيه الأمير مسلمة، فقاد مسلمة جيشًا ضخمًا عدده 120000 مقاتل، ولكن مسلمة توقف عام98هـ/ 716م؛ بسبب الصراع البيزنطي على العرش، فكان يسعى أن يقوم البيزنطيين بإضعاف بعضهم، ودعم ليو الإيساوري الذي أصبح إمبراطورا وتنكر لإتفاقياته مع مسلمة، فتقدم مسلمة متجاوزا المدن البيزنطية ووصل للقسطنطينية وبدأ بحصارها عام99هـ/ 717م.
واستمر الحصار رغم المقاومة البيزنطية الشديدة، وقد وضع مسلمة خطة جديدة إذ أقام بيوتاً من خشب للجيش وأمرهم بأن يزرعوا ويأكلوا مما يزرعون ومما يصيبون من الغارات، وذلك حتى يستمر الحصار لأطول مدة ممكنة، واضطر البيزنطيين لأن يعرضوا الجزية ديناراً عن كل شخص في مقابل إنهاء الحصار، ولكن رفض مسلمة، وقد حل الشتاء و الثلوج، فاضطر جيش مسلمة أن يأكل الدواب وأصول الشجر، وساءت الأحوال.
وضاق بجيش مسلمة الحال نتيجة قلة المؤن، وفي النهاية لم يتم فتح القسطنطينية نتيجة النار الإغريقية التي أضعفت جيش مسلمة، وكذلك بسبب قدوم الجيش البلغاري لمساندة البيزنطيين، وتوفي الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك في99هـ/ 717م وتولى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز والذي بعد أشهر طويلة أدرك عدم إمكانية فتح القسطنطينية فأرسل إلى مسلمة يأمره بالإنسحاب وفك الحصار فانتهى الحصار في شهر أغسطس عام 100هـ /718م، بعد أن قام البيزنطيين ببناء مسجد في القسطنطينية بناء على طلبه.
مسلمة والياً على العراق
في عام101هـ/ 720م توفي الخليفة عمر بن عبد العزيز، وتولى الخلافة شقيق مسلمة الخليفة يزيد بن عبد الملك، وقام يزيد بنقل مسلمة من ولاية الجزيرة وأرمينيا، وقام بتعيينه واليًا على العراق، وذلك بسبب أن العراق وقع تحت سيطرة المتمردين الخوارج وكذلك المهلبيين، حيث استولى يزيد بن المهلب على البصرة والأهواز، فأتى له مسلمة بجيشه، فالتقيا في واسط حيث دارت معركة عظيمة انتهت بهزيمة يزيد بن المهلب ومقتله هو وأخوه حبيب.
وتحكم مسلمة في العراق وأعاد لها الاستقرار بعد أن قمع الخوارج، وقام بعزل جميع حكام المناطق العراقية، وعين رجال أكثر كفاءة مكانهم، وهذا جعل أخيه الخليفة يزيد يخشى منه فقام بعزل مسلمة عن ولاية العراق في عام103هـ/ 721م.
مسلمة من قائد ووالي إلى تابع خلال الفترة بين عامي103ـ105هـ/ 721ـ725م أمر الخليفة يزيد بن عبد الملك بمنع تعيين مسلمة في أي منصب كبير، ومع ذلك اختار مسلمة أن يبقى يحارب البيزنطييين كقائد تابع للقائد الجراح بن عبد الله الحكمي والقائد الحارث بن عمرو الطائي رغم أنه كان أعلى منهم بكثير، وهذا نتيجة شدة حماسته لقتال البيزنطيين، وعدم ربط جهاده بالمناصب.
مسلمة والياً على الجزيرة وأرمينيا مرة أخرى
في عام105هـ، 725م أمر الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك بإلغاء أوامر أخيه الخليفة السابق يزيد، وقام بتعيين أخيه مسلمة واليًا على الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان، واستكمل مسلمة قتاله ضد البيزنطيين واستطاع فتح قيصرية عام108هـ/ 726م، ثم تفرغ خلال عامي109ـ110هـ/ 727- 728م لقتال الخزر، وفي إحدى حملاته قاتل جيشه لمدة 40 يوم في جو شديد البرودة، وانتصر على الخزر في معركة داريال عام110هـ/ 728م.
وفي عام111هـ/ 729م تمت إقالة مسلمة من مناصبه فتدهور الحكم الأموي في القوقاز، وفقدوا المناطق الشمالية والشرقية من ما كانوا يحكمونه، ولكن تمت إعادة مسلمة لمنصبه عام112هـ/ 730م، واستطاع أن يسترد أماكن عدة من ما تم فقده منها مدينة الأبواب، ولكنه لم يسترجع كل شيء حيث كان يعمل على. تطهير كل منطقة يسيطر عليها لينتقل لمنطقة أخرى ومع ذلك تمت إقالته عام 732م
تقاعده وابتعاده عن السياسة والحروب
في عام 732م تمت إقالة مسلمة بن عبد الملك من كافة مناصبه بأمر من الخليفة هشام بن عبد الملك، رغم أن مسلمة كان عمره أنذاك 47 عاما أي أنه كان ذو خبرة وقادر على القيادة والقتال، وكان واضع خطة طويلة الأمد للسيطرة على كامل القوقاز، ومع ذلك أقيل وتم إبعاده عن ساحات المعارك.
وخلال آخر 6 سنوات من حياته كان عمله هو إدارة أملاكه في شمال بلاد الشام، وكذلك تفرغ للعبادة والتدين، وانتشر عنه أخبار أنه أصبح يتنبأ بالمستقبل فتنبأ بزوال دولة بنو أمية وإقامة دولة أموية جديدة في الأندلس، وبأنه شاهد الطفل عبد الرحمن الداخل حفيد الخليفة هشام بن عبد الملك وأكد أنه هو من سيحقق النبوءة، وقد وردت هذه النبوءات في كتاب البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي.
- لماذا لم يتولى الخلافة؟
للأسف لم يتولى مسلمة الخلافة رغم أنه أكبر من إخوته يزيد وهشام أبناء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وذلك لأن القانون الأموي المطبق زمن مسلمة يمنع تولي أبناء الجواري غير العربيات، وهذا أدى لإقصاء مسلمة رغم كل ما يملكه من عبقرية عسكرية وإدارية ورغم شجاعته وكل ما قدمه للدولة الأموية والأمة، ورغم أنه عند الكثير من المؤرخين أفضل أبناء عبد الملك بن مروان
قال بن تغري بردي صاحب كتاب "النجوم الزاهرة": "كان شجاعًا صاحب همة وعزيمة، وله غزوات كثيرة".
ويقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد: "ولم يكن لعبد الملك ابن أسدد رأيًا ولا أزكى عقلاً ولا أشجع قلبًا ولا أسمح نفسًا ولا أسخى كفًّا من مسلمة".
تدينه
كان مسلمة يقوم من الليل فيتوضأ وينتفل حتى يصبح، وكان يثق في ورع عمر بن عبد العزيز وعمر يثق في ورع مسلمة، فدخل مسلمة على عمر في مرضه الذي مات فيه فأوصاه عمر بن عبد العزيز أن يحضر موته، وأن يليَ غسله وتكفينه، وأن يمشيَ معه إلى قبره، وأن يكون ممن يلي إدخاله في لحده، ومن المعلوم أن المرء لا يوصي أحدًا بأن يحضر موته ويلي غسله وتكفينه إلا إذا كان يثق في ورعه وتدينه.
وكان مسلمة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان يؤدي فريضة الحج، ويشد الرحال إلى مسجد النبي (ص) في المدينة المنورة كلما وجد إلى ذلك سبيلاً، وقد تولَّى إمارة الحج سنة 94 هجري الموافق 713 م في أيام أخيه الوليد بن عبد الملك.
أسرته
تزوج من الرَّباب بنت زُفَر بن الحارث الكلابيَّة، والزَّعُوم بنت قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس الكِنْدِيَّة، وأم سلمة المخزومية.
وأما أولاده فهم سعيد الأكبر ويزيد وإبراهيم وشراحيل ومحمد وإسحاق وأبان وسعيد الأصغر وله ابنة واحدة غير معروف اسمها.
وكثُرت ذريته زمن الدولة العباسية، فذكر ابن حزم أنه في زمانه أي القرن الخامس الهجري لا زال كثير من ذرية مسلمة يعيشون في الجزيرة الفراتية بحصن مسلمة الذي بناه هناك، وبعضاً من ذرية مسلمة عاشوا في الناعورة بحلب تحديداً في القصر الذي بناه مسلمة، وبلغ عدد ذرية مسلمة بالناعورة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد 70 بيتاً، وأُطلِق عليهم أيضاً "المسالمة".
ومن أشهر أحفاده زمن الدولة العباسية الشاعر محمد بن يزيد الحصني والذي كان مناصرا للخليفة الأمين ضد المأمون وبقي في زمن المأمون شاعرا كبيرا، وكذلك إشتهر من أحفاده محمد بن يعقوب الذي سيطر على دمشق لفترة قصيرة عام 813م وحاول إعادة الدولة الأموية ولكنه فشل وإختبأ بعد ذلك.
وفاته
في عام121هـ/ 738م مات مسلمة في أيام خلافة أخيه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك وكان عمره 54 عامًا وكانت وفاته في منطقة تل حواصيد قرب مدينة حلب ودفن في قنسرين، حيث ترجل فارس بنو أمية والجرادة الصفراء، وخلال حروبه تمكن مسلمة بن عبد الملك من تطهير وتأمين الحدود الشمالية ، وكان لقبه الجرادة الصفراء نتيجة أنه كان يكتسح عدوه ويطهر كل منطقة يصل لها..
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي