Close ad

ولا تنسوا الفضل بينكم

15-1-2025 | 14:09

قال الأولون إن الحياة ليست سوى مدرسة كبرى، لكنهم نسوا أن يُخبرونا أن معلميها الحقيقيين هم اللحظات العابرة، والوجوه التي نلتقيها صدفة، والأحداث التي تأتي دون استئذان.. كل تجربة هي درس، وكل لقاء هو امتحان لروحنا.. وقد تصادف يومًا إنسانًا حكيمًا، يقول لك في كلمات قليلة ما يحتاج الآخرون إلى عمرٍ كامل لفهمه. وحين تسأله: من أين لك هذه الحكمة؟ يبتسم كمن يحمل سر الكون ويجيبك: "تعلمت في مدرسة الحياة".

لكن الحياة، وهي تمنحنا الدروس، تحمل أيضًا رسالة خفية: لا تنسَ الفضل بينك وبين الآخرين.. الامتنان هو الفن المفقود في زمن الأحقاد السريعة والنهايات الباردة. إنه الحبل الذي يربط القلوب ببعضها، حتى وإن فرقتها المسافات.. أهل المعروف، وإن لم ينتظروا شكرًا، فإن كلمة طيبة تليق بجميلهم تُعيد لهم الإيمان بأن الخير لا يزال يُقاوم، وأن الله الذي هو صاحب الفضل الأول قد اختارهم ليكونوا واسطة للرحمة. لكن، كم من مرةٍ اغتال نكران الجميل زهرة العلاقات؟ كم من مرةٍ قطعت الجحود شرايين المحبة، وجعلت الخير ينحسر كما ينحسر المدّ في وجه العاصفة؟ من ينسى الفضل، يطفئ شمعة في ظلام هذا العالم، ومن يبخس الناس أشياءهم، يغلق بابًا من أبواب الجنة.

في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: "وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ".. وكأن هذه الآية وُجدت لتذكرنا بأن الفضل ليس مجرد كلمة تُقال أو ذكرى تُستعاد، بل هو عهدٌ أبدي بيننا وبين إنسانيتنا.. وإن كانت الآية جاءت في سياق الطلاق، إلا أن معناها أوسع من ذلك بكثير.. هي وصية إلهية بأن لا نترك يدًا امتدت إلينا معلقة في الفراغ، وألا ندير ظهرنا لمن كان يومًا عونًا لنا.

وقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه. ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة". فكيف لمن لم يعتد شكر أخيه على معروفه، أن يدرك معنى الشكر لله، وهو الذي علّمنا أن الشكر هو عبادة القلوب؟!

وإذا كان الرسول الكريم أسوتنا وقدوتنا، فإن أعظم ما خلّدته سيرته هو دعوته إلى أن نحفظ للناس أفضالهم، وأن نمنح الامتنان مكانته المستحقة في حياتنا. الامتنان ليس مجرد كلمات عابرة تُلقى كيفما اتفق، بل هو انعكاس للشكر لله عز وجل، الذي يَجري الفضل على أيدي عباده الصالحين كما يجري النهر بمائه العذب ليُحيي الأرض العطشى.. وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله".. ما أعمقها من كلمات، تبدو بسيطة لكنها مفتاح أبواب القلوب والحياة.

في أحد مشاهد السيرة النبوية التي تحمل من العبرة ما لا ينسى، يروي الصحابة قصة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، رجل المواقف العظيمة.. كان بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أمرٌ ما، فأراد أبو بكر الصديق أن يغفر له عمر ويعفو عنه.. وهنا، تنبض الكلمات النبوية بحنان وعمق، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر". ثم التفت إلى عمر قائلًا: "إنني أتيتكم فقلتم كذبتَ، وقال أبو بكر صدقتَ، وواساني بماله ونفسه، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟".. إنها لحظة تعكس أسمى معاني الوفاء والعرفان، وتُبرز مكانة أبي بكر الصديق في قلب النبي الذي لم ينسَ الجميل أبدًا.

وكيف للنبي الكريم أن ينسى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، المرأة التي كانت أول من صدّقه حين كذّبه الناس، وواسته بمالها وحبها حين أدار العالم ظهره له. قال لعائشة رضي الله عنها: "آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الأولاد إذ حرمني أولاد النساء".. كانت خديجة شجرة وارفة الظلال في صحراء الوحدة، ورحمًا للأمل وسط صخب الإنكار. كلماته عنها ليست مجرد ذكرى، بل نقش خالد في ذاكرة الامتنان.

وإذا ما انتقلنا إلى الأنصار، أولئك الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم للمهاجرين، نرى صورة أخرى للعطاء النقي. أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهم خيرًا فقال: "أحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". وكأنها وصية بألا يُمحى الخير من ذاكرة الأيام، بل زاد على ذلك حين قال: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبه. الأنصار شعار والناس دثار".. إنها كلمات تُخلّد أسمى معاني الإيثار، وترسم خريطة الوفاء لمن جعلوا من مدينتهم ملاذًا آمنًا لدعوة الحق.. في هذه المواقف جميعها، يعلّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الشكر لا ينتهي عند الكلمات، بل هو ضوء يشع في القلوب، وفاءً يعيد الحياة إلى العلاقات، وثقة تجعلنا أقرب إلى الله.. شكر الناس هو في جوهره شكر لله، الذي وهبنا هذا النور من العطاء كي نستضيء به في ظلام العالم.

ومن الأسف أن ينمّ الجحود ونكران الجميل عن نفسٍ خاوية، ومنبتٍ شحيح لم يُروَ بماء المروءة، وبيئةٍ لا تُثمر إلا شوك الغلظة وقسوة الجفاء.. فالجحود هو الظل الذي يلقيه القلب حين تغيب شمس النُبل عنه، وهو المرض الذي يُفسد روح الإنسان مهما بدا للناس معافى.. لم يكن غريبًا أن يتناول الحكماء والشعراء هذه الآفة، فالكلمة هي السلاح الوحيد الذي امتلكوه لمواجهة بؤس الأرواح.

يقول أبو الطيب المتنبي، شاعر العربية وأمير الشعراء:

أَلا إن أَخلاق الرِجال وإن نمتْ \ فأربعة منها تفوق على الكلِّ

وقار بِلا كبرٍ وصفح بلا أذى \ وجودٌ بلا منٍّ وَحِلمٌ بلا ذلِّ.

هنا يتحدث المتنبي عن تلك القيم التي ترفع الإنسان، وعن أولئك النبلاء الذين يمنحون بلا مقابل، يصفحون بلا غرض، ويحلمون بلا وهن. هؤلاء هم أصحاب المعروف الذين لا يُثقلون معروفهم بالمنِّ، ولا يعكرون صفوه بالأذى. أما من تلقى هذا المعروف، فهو لا يخرج عن كونه شاكرًا يحمل في قلبه بذرة الكرامة، أو ناكرًا لئيمًا يفيض قلبه تمردًا ونكرانًا.

وفي هذا المعنى أيضًا قال المتنبي:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته \ وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.

لكن الشعراء لم يكونوا وحدهم في هذه الرؤية، فقد ترك الأدباء كلماتهم شاهدًا على أن الفضل لا يدركه إلا ذو فضل.. يقول الأندلسي ابن ليون التجيبي: "لا يعرف الفضل لأهل الفضل، إلا أولو الفضل من أهل العقل.. هيهات يدري الفضل من ليس له فضل ولو كان من أهل النبل".. وكأن الكلمات تنطق بحكمة أزلية: من لم يحمل في روحه شرف التقدير، لن يرى النور في أفعال الآخرين.

ولعل الأعرابي الذي سُئل: من أسوأ الناس خُلقًا؟ قد أجاب عن هذا السؤال بما يكفي لإغلاق النقاش: "من إذا غضب منك نسي فضلك، وأفشى سرك، ونسي عشرتك".

جميع هذه المواقف والاقتباسات ليست إلا شواهد حية على أن الامتنان والاعتراف بالفضل ليسا مجرد كلمات تُقال، بل هما من صُلب القيم التي تحفظ للبشر إنسانيتهم.. والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي أُرسل بالحق رحمةً للعالمين، كان حريصًا على أن يُنسب الفضل لأهله، وأن تُكرّم النفوس التي بذلت ووهبت.. فهل اقتدينا به حقًا؟ وهل أدركنا، بوعي أرواحنا لا بعقولنا فقط، أن الكلمة الطيبة والامتنان والشكر ليست ضعفًا، بل هي القوة الحقيقية التي يهبها الله لأصحاب النفوس النبيلة؟

هي فضائل الأخلاق التي إن لم نعِها، فلا أسف على من غاب عنها نور الهداية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة