Close ad

د. أيمن بكر صاحب «تاريخ سرى للعنقاء»: كتابتى للرواية تعبير عن حنينى للوطن

15-1-2025 | 02:33
د أيمن بكر صاحب ;تاريخ سرى للعنقاء; كتابتى للرواية تعبير عن حنينى للوطند. أيمن بكر
حوار أجراه: مصطفى عبادة
الأهرام العربي نقلاً عن

حتى لو قال القدماء: إن المعاصرة حجاب، فإن متابعتى لجهود د. أيمن بكر الثقافية، لم تنقطع، وبحكم الصداقة التى تعود إلى مطلع التسعينيات، لم أر أيمن إلا مخلصا لفكرة القيمة، وشديد الإيمان بأن التقدم الاجتماعى ابن لثقافة حية وحيوية، ومنذ كتابه «المفكر الرقاصة» صنف نفسه فى خانة المفكرين المختلفين، لا يربط الثقافة بغاية قريبة، أو مصلحة شخصية، بل هى فى نظره قاطرة التغيير الحقيقى، ومنذ فترة طويلة أحاول الكتابة عنب أيمن بكر المثقف الذى مرت تجربته بمدى واسع من الخبرات المتنوعة، دارسا ثم باحثا فى الأدب والبلاغة وتحليل الخطاب الثقافى، واكتسب المزيد من الاتساع والفهم، عبر السفر والمشاركة فى المؤتمرات العلمية، ومع ذلك لم ينفصل عن مجاله العام، أو الحاضنة الاجتماعية التى تكوَّن فيها، وانتجت هذه الثقافة، تفاعل مع أداءات النخب القديمة فى كتابه «المفكر الرقاصة»، وإليه يعود السبق فى صك هذا لمصطلح، الذى يؤشر إلى نوع من المثقفين والمفكرين، لا يعتدون بغير سياقهم الشخصى، وبرغم أنه صاحب قدم راسخة فى التراث العربى، ولديه آراؤه المهمة فى فهمه وتقديمه للقراء، فإنه يعرف الحداثة كأصحابها، ويأخذ منها ما يعينه على الفهم والإحاطة، دون الوقوع فى الإحساس بالدونية أو الانبهار، يحتفظ دائما بمساحة فى عقله للسؤال والمساءلة، لا يقبل شيئا دون فحصه، أو دون عرضه على ميزان تاريخ المعرفة وتنوعها وشمولها.

موضوعات مقترحة

منذ فترة تراودنى فكرة الكتابة عن أيمن بكر، المثقف المعتز بمصريته، الذى يعرف ويجهر بأن ما هو أدبى، لا يفهم لا بطريقة أدبية، وما هو ثقافى سيبقى ثقافيا مشتبكا مع مجتمعه، وهو لا يقصر الكلمة على الأدب، بل يمدها إلى مجالها الحيوى الذى يعتنى بجوهر الإنسان، بالإضافة إلى كتبه الفكرية مثل: المفكر الرقاصة، و: قالت أميمة.. تأملات فى التراث، والآخر فى الشعر العربي، و«أصداء الشاعر القديم.. تعدد الرواية فى الشعر الجاهلى« وتشكلات الوعى وجماليات القصة، وانفتاح النص النقدى، وهوامش العميد، ملامح التجربة المعرفية عند طه حسين، له أيضا إسهامه الإبداعى حيث صدر له: ديوان «رباعيات»، وأخيرا صدرت له رواية: تاريخ سرى للعنقاء، حول كل هذه القضايا كان لنا معه هذا الحوار:

< لماذا الرواية الآن بعد هذا الكم من الدراسات المعمقة فى الأدب تنظيرا وتحليلا؟

بداخل كل منا يقبع سارد، خصوصا الشعوب التى تحتفظ بجذور شفوية قوية ولما تزل تلك الجذور حية مؤثرة فى وعيها، إلى جانب ذلك أرى إن السرد غريزة لا نصبر كثيرا لنشبعها، كما أنه معادل فنى للحياة كما نحب ونرجو. لكن دعنى أقول إن مدار الأمر فى كتابة الرواية ليس على «الحدوتة»، فكلنا يملك حكاية، لكن الأمر يتعلق بالأدوات، وأخص البناء واللغة، والأهم هو استيعاب الكاتب لتاريخ النوع.

دعنى أقصص عليك كيف بدأت تجربتى مع كتابة الرواية: كان الأمر لعبة هدفها معالجة حنين ممض للوطن، بعد اغتراب طال وأرهقنى، برغم عودة متكررة لم تغن من شوق، تجربة «الغابة»، كانت ممتعة بصورة استثنائية، لأنى لم أفكر خلال كتابتها فى النشر على الإطلاق، كان تركيزى منصبا على إشباع شهوة الحكى، فكرة الخطين السرديين فى الرواية: الجد توفيق المصرى والحفيد آدم، وما بينهما من تشابهات واختلافات تسمح بالمقارنة بين زمنين، فتحت آفاق متعة كنت أرجوها.

 ولأنى لم أكن أطمع فى أكثر من ذلك؛ استمرت الرحلة مع الغابة لأربعة أعوام. كانت هويدا زوجتى هى القارئ الأول، ثم بعد الانتهاء تجرأت على إرسال المخطوط لأصدقاء من الكتاب والنقاد الذين أثق فى علاقتى بهم، ومحبتهم لما أفعل؛ أى إننى أثق فى صدق رأيهم وموضوعيته، كانت ردود الفعل متحمسة ودافعة للنشر، بعد النشر كان استقبال «الغابة» مغويا بتكرار التجربة، فجاءت «تاريخ سرى للعنقاء».

< هل يمكن اعتبار الرواية قناعا يمكن من خلاله تمرير رسالة لا يمكن تمريرها بالنقد، هل تؤمن أصلا بأن على الكاتب أن يرتدى قناعا؟

الأقنعة تتصل بأمرين، أحدهما جمالى مجازى ضرورى لإطالة الطريق نحو المعنى، إذ غالبا ما يكون الطريق هو الهدف والغاية، وفيه تنبت الشحنات الجمالية، والأمر الثانى يتصل مباشرة بحدود الحريات ضمن ثقافة بعينها، القناع كذلك جزء من وجودنا الإنسانى تفرضه قواعد المشروعية الاجتماعية، فمن الصعب حد الاستحالة تقريبا أن نمارس ذواتنا أو أن نعبر عنها بحرية كاملة، هذه الحرية ستبقى حلما يتراجع باستمرار ويغذى عالمى الفكر والفن، وسنكتشف أننا لا نملك سوى أقنعة بعضها فوق بعض.

 الرواية ليست قناعا بالمعنى البسيط، وإلا تحولت إلى معادلات رياضية ورموز تشبه الألغاز، الوسيط الجمالى عبر اللغة والبناء بالأساس يصبح قناعا، وهو الطريق الوحيد لتحقيق المتعة وتحريك الذهن، وممارسة النقد الثقافى فى أحد أكثر تجلياته عمقا وتأثيرا، يتمثل فى الرواية، ولنا فى نجيب محفوظ ويحيى حقى وغيرهما مثلا، الأهم أن الرواية تسمح بتشابك كل المعارف، التى يملكها الكاتب بصورة غير متوقعة حتى بالنسبة له، ولذلك يقولون إن كل رواية مبدعة هى نوع سردى مستقل، إضافة لذلك، هناك تغير مدهش وعميق يحدث للمبدع المخلص لما يفعل، يتجلى هذا التغير بعد كل مرة يكتب فيها نصا جديدا.

< كيف خططت لهذه الرواية؟

التخطيط لرواية العنقاء، هو ابن ألم عميق ومرارة تتصل بكيفية صعود الأشباه، وأنصاف الموهوبين فى ثقافات العالم، وسيطرتهم على المشهد الثقافى والاجتماعى، وكيف أن هؤلاء الأشخاص مع ذلك ليسوا شياطين، بل هم نتاج عوامل ثقافية/بيئية معقدة، كان الهدف هو تتبع هذا الصراع الداخلى لواحد من الكيانات الشائهة، التى تمكنت من احتلال مكانة مهمة، لكن هذا التخطيط الأولى لم يصمد كثيرا أمام منطق تشكل الشخصيات والأحداث، وغالبا أصبحت الشخصيات تتحرك - ضمن المخطط العام - لتصنع مصيرها طبقا لمنطقها، بما يلغى التخطيط الأولى أيا كانت درجة إحكامه. الشخصية الرئيسة فى العنقاء تكررت كثيرا، ما يؤكد فكرة توالدها من رمادها، وقد كان التحدى الأهم فى الرواية أن تتمكن من رسم الشخصية المكرورة نفسها بتفاصيل مختلفة وممتعة فى القراءة بقدر إمتاعها أثناء الكتابة.

< هل شعرت بالباعث أن هذا وقت كتابة رواية، أم أن الأمر نزوة ذهنية؟

مع رواية الغابة ظننتها نزوة أردت ألا أكبتها، لكن ما حدث مع العنقاء أشعرنى أن لدى ما يمكن أن يكون مشروعا روائيا، وهو ما يبدو فى طور الاكتمال حاليا برواية ثالثة أعمل عليها، أظن أن كتابة الرواية المختلفة العميقة تحتاج - مع امتلاك الأدوات - إلى نضج التجربة الإنسانية/الفكرية إلى حد معين، حتى لا أرهق نفسى والقارئ فى أعمال نيئة، ربما أندم عليها وأتبرأ منها كما يفعل البعض.

< هل تتفق معى أن قوس الرواية يوشك على الإغلاق بعد أن تماهت مع وسائل التواصل الاجتماعى؟

 ما أراه هو على العكس من ذلك، فما تقدمه وسائل التواصل من سرود ساذجة غالبا تجعل الكتابة الروائية المبدعة أكثر تميزا، الأزمة تكمن فى حالة القراءة الجاهلة بطبيعة الاختلاف بين تلك السرود السطحية، والنص الروائى الممتلك لأدوات فيها تجديد، والمشبع بتاريخ النوع فى الوقت نفسه.

وسائل التواصل تسمح لعدد مذهل من اختبار ادعاءاته عن نفسه، إنها ساحة انتخاب نشطة بصورة لا تفتر، ومن يتميز فيها غالبا ما يتحول لكتابة السرد الفنى بمختلف أنواعه، وسائل التواصل مفرزة أولى لا يبقى منها سوى القادر على التحول نحو الإبداع السردى العميق والمجدد، ربما لذلك تشهد الكتابة الروائية، انفجارا غير مسبوق فى الثقافات العربية، وبالطبع لا يملك أحد أن يوقف من يريد المحاولة، فمجالات الإبداع الأدبى والفكرى هى آخر ما بقى للناس من معانى الحرية، وأحسب ذلك إيجابيا، ويسهم فى تحريك العقل الذى فشلت مؤسسات التعليم والثقافة فى تحريكه، وللزمن الحكم على الجيد والردئ.

< تصف إيزابيل الليندى كتابة الرواية بالأمر السهل قائلة: لا تكتب قصصا قصيرة، اكتب رواية لأنها أسهل كثيرا، وستجد ناشرا وستجد جوائز، وسيكون الأمر أسهل كثيرا، هل تتفق مع هذا الرأى؟

وصف الليندى ملئ بالسخرية المريرة، هى تشير بطرف خفى إلى صعوبة البناء فى السرد عموما، وهو يتصدر المكونات فى القصة القصيرة، وأحسب أن بناء الرواية أصعب، لأن الوصول إلى بناء مميز فيها، وعدم السقوط فى ترهل محدق دوما، مع جسدها اللغوى الضخم، هو أمر مرهق كثيرا، ولهذا تسقط روايات كثيرة فى حالة حشو حتى مع قلة صفحاتها، وبالفعل يبدو ما نشهده على الساحة الروائية عالميا، وعربيا على وجه التخصيص، أقرب إلى ثرثرة سردية تقدم متعة باهتة، وهى إلى هذا فارغة أو تكاد من القيمة الجمالية والعمق الفكرى كليهما، جمهور القراء سيشعر ذلك بصورة غامضة، لكنه لن يتمكن من التعبير عن الفرق بين سرود يومية هدفها التسلية العابرة والاستهلاك السريع، ونصوص بذل فيها كتابها جهدا عقليا لصناعة بناء فنى مختلف ومبدع، وحرصوا على تقديم لغة حكى مختلفة وممتعة، ولهذا أتفق تماما مع سخرية الليندى الموجعة، وأحسب أنها تنطلق من وعى عميق برداءة المنطق الرأسمالى المتوحش الذى غزا مجالات المعرفة والإبداع، فصارت مؤسسات إنتاج المعرفة، وأخص إنتاج الآداب والفنون، رهينة بمتطلبات السوبر الماركت المفروض على عقولنا وأرواحنا بقوة القمع الرأسمالى.

< هل ولدت رواية «تاريخ سرى للعنقاء» مكتملة فى رأسك، أم تطورت أثناء الكتابة؟

أظنه من المستحيل أن تولد رواية مكتملة فى ذهن الكاتب، الفكرة تكون واضحة وهناك تصور مبدئى عن البناء، لكن للكتابة منطقا يحرك العقل بصورة تفاعلية ترتبط بآليات الكتابة وطبيعة الحضور المادى للكلمات أمام عين العقل، بمعنى أن التفكير التجريدى ينتمى لمنطق شفهى قديم فى الإبداع، أما الكتابة فلها منطقها المختلف، ولذلك بمجرد أن تمسك بالقلم تتحول آليات التفكير بصورة مدهشة لتخلق أمام عينيك عوالم مغايرة عن تلك التى رأيتها بعينى خيالك، وغالبا لا تبقى الفكرة الأصلية التى انطلقت منها كما كانت.

< ما الأكثر أهمية بالنسبة لك فى الكتابة: بناء الشخصية، أم اللغة، أم إيقاع العمل بشكل عام؟

المكونات جميعا مهمة، وأحسب أنها تتصل بصورة عميقة وغير مباشرة بشخص الكاتب وطعم روحه، أعتذر عن التوصيفات المجازية التى سوف أستخدمها هنا: هل روحه لاذعة ساخرة؟ أهى مستهينة مستخفة؟ أتراها ذات حس نبوى رسولى؟ أهو ثقيل الروح مهتم بالرسالة وحدها؟ هل تطغى شخصية الفيلسوف أو المخادع أو الرزين، المتطرف العنيف، المفكر المتأمل..الخ؟ إلى غير ذلك مما نستشعره فى الناس وفى أنفسنا من دون أن نتمكن من توصيفه بوضوح، كل هذا تكشفه الرواية.

تكتسب مكونات السرد تفاصيلها كذلك من خصوصية الرؤية، والقدرة العقلية على إدارة حوار بين ذات الكاتب وتاريخه وفهمه للعالم، ضمن حالة اشتباك نادرة بين كل ما سبق، والأهم أن يتم تأمل هذا الحوار بلا تشنج، أود تأكيد أن الرواية تحديدا تحتاج لتأمل عظيم وطويل للعالم والذات معا، أى فى علاقتهما المربكة التى لا تتوقف عن الحركة والتغير. أحسب أن تركيب النص (البناء) ولغته هما الأهم، فالبناء ليس هيكلا خارجيا خاويا من المعنى، إنه جزء أصيل فى صناعة الدلالة وبناء الرسالة المحتملة للنص، أما اللغة فهى الأخطر والأصعب على الإطلاق، ففيها ينعكس الحوار السابق بين فهم الكاتب لذاته وتصوراته عن العالم، وفيها يظهر مدى اتصاله بتاريخ نوعه، وبباقى أشكال المعرفة والفنون والآداب، وعبرها تتشكل الشحنات الجمالية للنص.

< تتعامل مع أجناس أدبية متنوعة، ما الذى يحدد ما تريد حين تحضر الكتابة؟ كيف تعرف أنك تحتاج الآن لكتابة الشعر أو الرواية أو الدراسة النقدية؟

سؤالك هذا هو الأصعب: فى الشعر أنا أعرف، هكذا بلا مقدمات، أمد يدى بعد تفكر وصمت لدقائق، وربما امتدا لساعات، لأكتب جملة تقود لما بعدها، وتنجلى أمام عينى الحالة أهى مربع أو مثلث أو نص شعرى طويل بالعامية أو الفصحى أثناء لحظة الكتابة وليس قبلها، أحسب أن الشعر دفق يحتاج لأقصى طاقات العفوية، ويتصل بطبيعة الهم المسيطر على الشعور، وهو غالبا هم ثقيل وغير واضح الملامح، الشعر مغامرة يجب ألا تكون محسوبة مع نفسك، ومدى شجاعتك فى تعريتها، إنه لقطة الكاميرا التى تمسك بنظرة عينيك وقد تجلت فيهما تجربتك الإنسانية كلها، أما السرد فيبدأ بفكرة متماسكة تشبه الهيكل العظمى قبل أن يكتسى باللحم، تظل تعتمل وتدور لفترة طويلة غالبا تمتد لشهور، يأتى مع الفكرة تصور عن ملامح الجسد بعد اكتماله، لكن هذا التصور يتغير خلال عملية الكتابة غالبا. النقد يختلف تماما، فهو بناء ثقيل يقوم على سؤال يتبلور من انغماس فى تأمل نص أدبى أو فكرى، أو حالة اجتماعية أو سياسية أو إنسانية... الخ، وبداية يرتد الوعى إلى أطره الأكاديمية ليبدأ البحث أولا عن مدى صحة السؤال البحثى واختلافه، أى إنه يخلو من المغالطات المنطقية ويضرب فى مساحة معرفية غير مطروقة، أو تحتاج لمزيد من الحفر، ثم يتم وضع أساس منهجى للبحث الفكري، يبدأ دوما بتحصيل معرفى مطول، العمل الفكرى هو بناء أكاديمى لا يهمل الإبداع الفردى، وهو ما نجده عند طه حسين، ولويس عوض، وزكى نجيب محمود، ونصر أبو زيد وغيرهم. وللأسف يبدو أن التقاليد البحثية فى مؤسساتنا التعليمية، وأخص الجامعة، قد أصابها ضعف شديد أدى لندرة الإبداع فى العمل الأكاديمى، ما جعل الكثير من هواة النقد والفكر يتجرأون على فكرة الأكاديمية بلا رويّة أو فهم.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: