فى حياة الشعوب، هناك زعماء تتجاوز أسماؤهم حدود السياسة لتصبح رموزًا لحلمٍ وأملٍ لا ينطفئ. ياسر عرفات، ذلك الفتى الذى خطا خطواته الأولى فى أزقة حى الضاهر العريق بالقاهرة، حمل فى قلبه شغفًا بالحرية أكبر من عمره، وحلمًا بوطنٍ أوسع من كل الجغرافيا، بين شوارع القاهرة وصخب بيروت، كان يُصاغ هذا الزعيم الذى جمع بين قسوة النضال ودفء الإنسانية.
موضوعات مقترحة
هذه ليست سيرة ذاتية، بل بعض مشاهد من السيرة، كنتُ حاضرًا فى بعضها وشاهدًا فى البعض الآخر.
هذا السيناريو رحلة أعيشها مجددًا، وأنا أتتبع خطوات رجلٍ حوّل المعاناة إلى فكرة، والفكرة إلى ثورة، والحى البسيط إلى بداية لحكاية كفاح لا تنتهى.
المشهد الأول: زعيم الفجر فى جمهورية الفاكهانى
فى أواخر السبعينيات، كنت أقيم فى منطقة الفاكهانى، تلك المنطقة التى أطلق عليها البعض «جمهورية الفاكهانى» فى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تداخلت السياسة بالحياة اليومية، وأصبحت رمزًا للنضال الفلسطينى والعربى، فى شوارعها، لم يكن من الصعب أن تميز بصمات المقاومة، فالجدران كانت تروى قصصًا، والناس يتنقلون كأنهم جزء من رواية كبرى، تُكتب فى كل لحظة.
على مقربة من مقر إقامتى، كان يقع أحد مقرات ياسر عرفات، فى الساعات الأولى من الفجر، وفى هدوء الليل الذى يتخلله أحيانًا أصوات القصف أو أصداء اشتباكات بعيدة، كان صوته يقطع السكون، كان يصيح بتعليمات للحراس، أو يناقش قرارات عاجلة مع قادة ميدانيين، فى تلك اللحظات، كان واضحًا أن عرفات لا ينام كغيره، بل يعيش ساعات الليل والنهار على وقع القضية التى كانت تُثقل كاهله، لكنه لم يكن يُظهر ذلك.
بعد بضعة أشهر، تغيرت حياتى، حين انتقلت للإقامة فى أحد مقرات الضيافة التابعة له، كان المكان محصنًا، مصعده لا يعمل إلا بإذن خاص، وشعرت لأول مرة بثقل الحياة تحت الحماية الأمنية المشددة. ومع ذلك، كان هذا الحصن يعج بالحياة الفكرية، والنقاشات السياسية التى كانت تدور بينى، وبين عدد من القيادات الفكرية والسياسية المصرية، الذين شاركونى الإقامة.
بيروت، فى تلك اللحظات، لم تكن فقط مدينة تحت الحصار، كانت مسرحًا للقاءات كبيرة ولأحداث ستترك أثرها على تاريخ المنطقة. وجودى هناك، قريبًا من أحد رموز النضال الفلسطينى، كان بمثابة نافذة تطل على تفاصيل لم يكن بالإمكان رؤيتها إلا من الداخل.
المشهد الثانى: دار الضيافة.. بين الخوف والطمأنينة
كانت بيروت فى تلك الأيام تموج بالأحداث، حين بدأت التحضيرات لإقامة احتفالية كبرى للكاتب الكبير عبد الرحمن الخميسى، الذى حصل على جائزة لينين للسلام من الاتحاد السوفيتى، كان الاحتفال بمثابة تأكيد على أهمية النضال الثقافى والفكرى، لكن فجأة، وقبل أن يُعقد الاحتفال، حدث ما قلب الموازين، اختفى كلٌ من المخرج فؤاد التهامى والكاتب أديب ديمترى، فى واقعة أثارت الذعر بيننا، حيث ساد الاعتقاد بأن أحد الأجهزة اللبنانية الانعزالية هى التى تقف وراء اختفائهما، خصوصا أن كليهما كان من قيادات الحزب الشيوعى المصرى، المناهض لاتفاقية كامب ديفيد آنذاك.
وسط هذه الأجواء، جاءت تعليمات ياسر عرفات، بتوفير الحماية لكوادر الحزب فى بيروت، هكذا وجدت نفسى فى أحد مقرات الضيافة التابعة له، برفقة عدد من القيادات الفكرية والسياسية المصرية البارزة مثل ميشيل كامل، محمود أمين العالم، محسن الخياط، وجمال الشرقاوي، وآخرين، كان المكان مُؤمنًا بطريقة غير مسبوقة، لا يُفتح المصعد إلا بمعرفة المقيمين، وكانت كل تحركاتنا تتم تحت إشراف أمن عرفات.
المشهد الثالث: الزعيم الحاضر فى التفاصيل
كان عرفات يأتى إلينا كل ليلة، بعد أن يفرغ من مشاغله المتعددة، متأخرًا لكن بروح متقدة، كنت أصغر الحاضرين سنًا، لكننى لم أشعر يومًا بالغرابة، كان عرفات حاضرًا بكل هيبته، ببدلته العسكرية وكوفيته التى أصبحت رمزًا للنضال، عندما يدخل الغرفة، كان الجميع يصمت وكأن زعيمًا تاريخيًا يملأ المكان، لكن سرعان ما يبدأ فى التبسط معنا، يتجاذب أطراف الحديث، ويشاركنا الطعام.
فى إحدى الليالى، وبينما كان يقدم الطعام بيديه للجميع، بدأ حديثًا عن الحلم الذى لا يفارقه: «فلسطين حرة، عاصمتها القدس»، تحدث عن القدس بشغف، وكأنها كيان حى يسكن قلبه. تلك الليالى، برغم قسوة الظروف، كانت مليئة بالإنسانية، كان يُشعر الجميع بأنهم ليسوا فقط جزءًا من مشروع نضالى، بل أفراد أسرة كبيرة.
المشهد الرابع: الإنسان خلف الزعيم
ما كان يُدهشنى حقًا هو بساطته، على الرغم من خلفيتى التى كانت تميل لانتقاد سياساته، وجدت نفسى أمام إنسان يتجاوز الأيديولوجيا، فى كل ليلة، كنت أحاول أن أواجهه ببعض الأسئلة التى تراودنى، لكن حين أنظر إلى عينيه، وأستمع إلى حديثه البسيط والعميق، كنت أفقد تلك الجرأة. كان يتحدث عن فلسطين وكأنها فرد من عائلته، عن مصر وكأنها امتداد لوطنه.
تلك الأيام، لم تكن مجرد إقامة فى مكان آمن، بل كانت تجربة إنسانية ونضالية غيّرت الكثير من مفاهيمى، فى ظل تلك الظروف القاسية، أظهر عرفات وجه الزعيم الذى لم يكن يتنازل عن حلمه، والإنسان الذى لم يكن يتنازل عن اهتمامه بالتفاصيل الصغيرة.
المشهد الخامس: عودة إلى الضاهر.. حيث بدأت الحكاية
فى أوائل التسعينيات، بعد عودتى إلى مصر، شعرت برغبة عميقة فى الاقتراب أكثر من تفاصيل حياة ياسر عرفات فى القاهرة، كنت أبحث عن جذوره، عن الأماكن التى عاش فيها وطبعت شخصيته فى شبابه، وعن الحكايات التى قد تكشف لى أبعادًا جديدة، عن الرجل الذى ملأ العالم صخبًا بنضاله وحلمه الكبير بفلسطين.
توجهت إلى حى الضاهر العريق، حيث قضى عرفات سنوات طفولته وشبابه الأولى، كان الحى ينبض بروح تاريخية خاصة، يعكس تنوعًا ثقافيًا ودينيًا نادرًا، حيث جاور المسلمون المسيحيين واليهود فى تناغم قلّ نظيره، دخلت شارع طور سيناء، حيث عاش عرفات مع عائلته فى بيت بسيط، كان هذا المكان شاهدًا على نشأته الأولى، بين جامع الظاهر بيبرس، ودير طور سيناء، والمبانى العريقة التى تروى قصص أجيال مرت من هنا.
بدأت أتحدث مع سكان الحى، الذين كانوا على مقربة من أسرته أو سمعوا عنها من آبائهم، كانوا يصفونه بالفتى الذى يسبق عمره فى النضج، الذى ترك اللهو مبكرًا ومال إلى القراءة والحديث مع الكبار، كان محبًا للجميع، لا يفرق بين جيرانه، وقد عُرف عنه حبه للسلام بين الناس، تلك الصفات التى نشأت فى بيئة الضاهر، ربما كانت النواة الأولى لشخصيته كزعيم قادر على احتواء التناقضات، وكإنسان لا تفارقه الإنسانية حتى فى أصعب الظروف.
رؤية أعمق لشخصية الزعيم
ما أدهشنى أكثر هو الحديث عن شغفه المبكر بفلسطين، أحد المقربين من الحى قال لى: «كان ياسر دائم الحديث عن القدس، وكأنها حلم شخصى يعيش فى أعماقه. فى شبابه، لم يكن يملك الكثير، لكنه كان دائمًا مشغولًا بفكرة العمل من أجل فلسطين»، هذا الشغف لم يكن مجرد كلمات، بل كان يتجسد فى اختياراته وأفعاله لاحقًا.
بينما كنت أمشى فى تلك الشوارع، شعرت وكأن المكان نفسه يحكى حكاية عرفات، فى كل زاوية، كنت أتخيل الفتى الصغير الذى يمشى بين الأزقة، يفكر فى مستقبل مختلف، ويرسم فى ذهنه أولى ملامح حلمه الكبير، حى الضاهر لم يكن مجرد مكان، بل كان جزءًا من تكوينه النفسى والفكرى، ومنبعًا لرؤيته التى ربطت بين الوطنية الفلسطينية والتعددية الثقافية.
عرفات: الحلم الذى بدأ فى الضاهر
من شارع طور سيناء، أدركت كيف تركت بيئة التنوع فى الضاهر بصمتها على عرفات، التناغم بين المسجد والدير والمدرسة، كان انعكاسًا لما آمن به لاحقًا: فلسطين كقضية جامعة، تتسع للجميع من هنا، من هذه البيئة المليئة بالتحديات، بدأ الحلم الذى سيحمله طوال حياته.
عرفات، لم يكن فقط نتاج نضال سياسى أو تجربة ثورية، بل كان ابنًا لجغرافيا شكلت روحه، من حى الضاهر فى القاهرة، إلى صخب بيروت فى الفاكهانى، ثم إلى قاعات الأمم المتحدة والعالم، حمل معه دائمًا هذا التراث، متمسكًا بحلمه فى تحرير فلسطين، وجعلها وطنًا للجميع.
الخاتمة.. الحلم الذى لم ينتهِ
من ضواحى الضاهر فى القاهرة، إلى الفاكهانى فى بيروت، كانت حياة ياسر عرفات رحلة استثنائية بين الحلم والنضال، قائد أجاد اللعب على أوتار التناقضات، لكنه لم يتخل يومًا عن إيمانه بفلسطين، عرفات لم يكن مجرد زعيم سياسى، بل كان تجسيدًا لحلم لم ينطفئ، حتى مع رحيله. وفى أروقة الفاكهانى وشارع طور سيناء، ستظل ذكراه حية، تلهم كل من يؤمن، بأن النضال ليس فقط فعلًا، بل حياة تُعاش بكل تفاصيلها.
■ ■ ■
ياسر عرفات، الزعيم الفلسطينى البارز، ولد فى 24 أغسطس 1929 فى القاهرة، ورحل عن عالمنا فى 11 نوفمبر 2004 فى باريس.
كان عرفات رمزًا للنضال الفلسطيني، وقاد منظمة التحرير الفلسطينية لفترة طويلة، وكان أول رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية. وفاته أثارت الكثير من الجدل والشبهات حول احتمال تعرضه للتسميم، وهو ما زال محل بحث ودراسة حتى اليوم.