«اعتقدت بالطبع أننى سأموت بسرعة كبيرة.. صليت.. ولم أطلب من الله أن يدعنى أعيش لفترة أطول، لكننى طلبت منه أن يمنحنى موقفًا كريمًا تجاه الموت، وأدركت أننى كنت هادئًا تمامًا فى مواجهة الموت».. تلك كانت آخر الكلمات، التى جاءت على لسان الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، الذى رحل عن عالمنا عن عمر يناهز 100 عام مع رحيل عام 2024.
موضوعات مقترحة
توفى جيمى كارتر مزارع الفول السودانى السابق الذى حاول إعادة الفضيلة إلى البيت الأبيض بعد فضيحة ووترجيت وحرب فيتنام، ليصبح مدافعا عالميا عن حقوق الإنسان والديمقراطية، كان الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة، ووصف بأنه كان زعيماً استثنائياً ورجل دولة وإنسانًا تميز بالوضوح الأخلاقى عمل على صياغة السلام وتعزيز الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، وتعزيز الانتخابات الحرة والنزيهة وإيواء المشردين والدفاع عن المحرومين.
ترشح جيمى كارتر للرئاسة عام 1976، وهو ديمقراطى معتدل وكان حاكما غير معروف لجورجيا، لكنه لفت الأنظار له بابتسامته الساحرة وإيمانه الغامر وخططه التكنوقراطية لحكومة فاعلة.
جاء وعده بـ"عدم خداع الشعب الأمريكى أبدًا"، ليتردد صداه بعد العار الذى تعرض له ريتشارد نيكسون وهزيمة الولايات المتحدة فى جنوب شرق آسيا.
لقد انبهر الأمريكيون بجديته، ولذلك جاء انتصار جيمى كارتر على الجمهورى جيرالد فورد انتصارا لافتاً للنظر رغم أنه كان بفارق ضئيل، حيث تراجعت حظوظ هذا الأخير بعد العفو عن ريتشارد نيكسون، جاء الانتصار أيضا على خلفية ضغوط مرتبطة بالحرب الباردة واضطرابات فى أسواق النفط واضطرابات اجتماعية بشأن العرق وحقوق المرأة ودور أمريكا فى العالم.
وضع جيمى كارتر الأساس للانتعاش الاقتصادى، وقلل إلى حد كبير من اعتماد الولايات المتحدة على النفط الأجنبى من خلال تحرير قطاع الطاقة، وكذلك شركات الطيران والقطارات والنقل البرى، أنشأ وزارتى الطاقة والتعليم، وعين عددا قياسيا من النساء وغير البيض فى مناصب فيدرالية، وحافظ على ملايين الأفدنة من الأراضى البرية فى ألاسكا، وأصدر عفوا عن معظم المتهربين من التجنيد فى فيتنام، كما أسهم فى تحقيق أول اتفاق سلام فى الشرق الأوسط، وهو أحد نجاحات سياسته الخارجية فى فترته الرئاسية التى استمرت لمرة واحدة فقط، قبل أن يطيح به رونالد ريجان بقسوة عام 1980، وجاء سبب الإطاحة هو ما وصف بأنه ضعف وتردد وتناقض وانتكاسات.
عام 2010، رسم الأكاديمى الأمريكى والتر راسل ميد صورة قاسية، لما أسماه "متلازمة كارتر" وصف فيها تدخله الخارجى بأنه جاء بحسن نية، لكنه كان عاجزا، ووفقًا له فإن جيمى كارتر انتهى به الأمر إلى دعم مقاومة الاحتلال السوفيتى فى أفغانستان وزيادة ميزانية الدفاع ووضع أسس الوجود الأمريكى المتزايد فى الشرق الأوسط.
استعان الأكاديمى الأمريكى بمقولات كارتر نفسها، التى رأى فيها أن عدم تورطه فى صراعات عسكرية خلال رئاسته، لا تعنى أبدا علامة ضعف أو سبباً للاعتذار بل إن المحافظة على السلام وتعزيزه هما الفوز الكبير، خصوصاً أنه اقترن بزيادة النفوذ العالمى للولايات المتحدة.
فى الشرق الأوسط على وجه التحديد لا يزال اسمه مرتبطًا بواحد من الإنجازات الدبلوماسية النادرة فى العقود الأخيرة، وهى اتفاقيات السلام عام 1978 فى كامب ديفيد، والتى جاءت خلافاً لنصيحة مستشاريه الذين اعتبروا أن المشروع محفوفا بالمخاطر للغاية وأن فرص النجاح ضئيلة، لكن اعتبر ما حدث نجاحا شخصيا لكارتر ظل يتفاخر به طويلا.
كان نجاحه الدبلوماسى الكبير الآخر، هو معاهدة عام 1977 التى تهدف إلى إعادة السيطرة الكاملة لبنما على هذه القناة، التى تربط المحيط الهادئ بالمحيط الأطلسي، ويحل هذا الاتفاق بشكل دائم النزاع المتفجر بشأن العلاقات مع أمريكا اللاتينية.
لقد أصبح جيمى كارتر معروفا بالرئيس الذى جعل الدفاع عن حقوق الإنسان أولوية للدبلوماسية الأمريكية، خصوصاً فى مواجهة الأنظمة العسكرية فى أمريكا اللاتينية، وهى معركة واصل خوضها بعد خروجه من المكتب البيضاوي، وحصوله على جائزة نوبل للسلام عام 2002.
وقد وصفه المؤرخ الفرنسى جوستين فايس فى مجلة فورين بوليسى عام 2018، بأنه حقق نجاحات ملموسة فى "أربع سنوات فقط" أكثر من معظم الرؤساء الآخرين فى ثمانى سنوات، برغم هزيمته الفادحة أمام الجمهورى رونالد ريجان.
لكن مع ذلك وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على مغادرته البيت الأبيض، ظهرت الصورة أكثر وضوحا حيث ظل جيمى كارتر، الذى يمثل جيلاً جديداً من رجال الجنوب أكثر تسامحاً وتقدماً فيما يتعلق بالقضايا العرقية، فقد وضع الدفاع عن حقوق الإنسان فى قلب دبلوماسيته.
هذا الرئيس المتحمس الذى تمتع بمهن غير نمطية، من ضابط بحرى، إلى رجل أعمال، ومن صاحب مزرعة فول سودانى عائلية، إلى رئيس الولايات المتحدة، تولى منصبه فى أمريكا التى لا تزال تعانى من فضيحة ووترجيت التى دفعت الرئيس نيكسون إلى الاستقالة، جاء من الجنوب ولم يكن معروف فعلياً على الساحة السياسية الوطنية عندما انطلق فى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطى للانتخابات الرئاسية عام 1976، وفور وصوله إلى السلطة سعى جيمى كارتر إلى النأى بنفسه عن "السياسة الواقعية" الموروثة عن الحرب الباردة، ووضع حقوق الإنسان فى قلب سياسة حكومته الداخلية والخارجية.
وكان قد أعلن أن هدفه الأساسى هو المساعدة فى تشكيل عالم أكثر انتباهاً لتطلعات الناس فى كل مكان (فى العالم) من أجل الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وتقرير المصير السياسى وحقوق الإنسان الأساسية.
امتلأت جعبته بالوعود للمعسكر الديمقراطى، الذى يسيطر على الكونجرس والبيت الأبيض لأول مرة منذ عام 1968. وفى حين خدم معظم شاغلى هذا المنصب فترتين متتاليتين، فاز جيمى كارتر بانتخابات رئاسية أمريكية واحدة فقط فى عام 1976، وبعد أربع سنوات معقدة فى البيت الأبيض، أمضى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، يسافر حول العالم ويعمل من أجل السلام، منتقدا السياسة الخارجية التى انتهجها خلفاؤه من الديمقراطيين والجمهوريين.
لقد أظهر كارتر ما ينبغى على جميع الرؤساء أن يفعلوه وهو التواضع، أراد جيمى كارتر ممارسة السياسة بشكل مختلف وخلافاً لأسلافه فإنه فى يوم توليه منصبه لم يعبر واشنطن بالسيارة بل سيراً على الأقدام، اتفق الجميع على أن حسن نواياه وصراحته تحطما بفعل حقائق الحياة السياسية الأمريكية فلقد كان مثالياً وكان يريد أن يفعل أشياء جيدة لكنه شعر أنه لم يكن لديه ما يكفى من البراجماتية ليتمكن من التفاوض وهو أمر لا مفر منه فى واشنطن إذا كان الشخص يريد إنجاز شيء ما.
وخلافاً للعديد من الرؤساء الأمريكيين الآخرين، لم يتردد جيمى كارتر قط فى وضع العقبات فى طريق خلفائه بمن فى ذلك الديمقراطيون، وفى عام 1992 رفض دعم بيل كلينتون فى السباق إلى البيت الأبيض، قائلا: إن الناس يبحثون عن شخص صادق يقول الحقيقة، وفى عام 2008 دعم باراك أوباما، لكن لم يمنعه ذلك من انتقاد سياسات أول رئيس أسود للولايات المتحدة خصوصاً فيما يتعلق بمسألة جوانتانامو أو الطائرات المقاتلة بدون طيار المستخدمة فى اليمن وباكستان.
من خلال إنشاء مركز كارتر عام 1982 فى نهاية فترة رئاسته وضع جيمى كارتر أهدافًا، تجاوز طموحها تلك المؤسسات التى أطلقها الرؤساء الآخرون، وفى الواقع أصبح هذا المركز الذى يقع على مرمى حجر من منزل مارتن لوثر كينج فى أتلانتا فى موطنه جورجيا منصة مذهلة للأعمال السياسية والخيرية والصحية فى أكثر من 80 دولة، فضلاً عن الاستقبال والمناقشات والدعم، كان العمل من أجل السلام بالنسبة له، يعنى التدخل شخصيًا فى العديد من الوساطات والمؤتمرات لمنع الصراعات أو حلها، وكانت "مكافحة الأمراض" بالنسبة له تتمثل فى الرغبة فى القضاء على الأمراض التى يمكن الوقاية منها والتى تؤثر على الفقراء.
لكن بعد سبعة عقود من العمل فى السياسة وسفره إلى 145 دولة وعمله لأكثر من ثلاثين عامًا كجزء من مؤسسته مع السكان الأكثر معاناة على وجه الأرض، كان جيمى كارتر مقتنعًا بأنه إذا كانت هناك أولوية فى هذا العالم فهى موضوع عدم المساواة بين الجنسين والمعاناة التى تتعرض لها النساء والفتيات الصغيرات، ليس فقط معاناة النساء ولكن أيضا الفصل العنصرى الذى أعتبر أنه من أوائل من استخدم هذا المصطلح لوصف السياسة الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة رغم أنه فى بداية ولايته كان صديقًا عظيمًا لإسرائيل، ولكن مع حلول الألفية الجديدة، تبنى جيمى كارتر مواقف انتقاديه متزايدة تجاه إسرائيل، وندد بشكل خاص بالاستعمار الإسرائيلى فى الضفة الغربية، وأدان بشدة العمليات العسكرية الإسرائيلية فى قطاع غزة، واتهم جيشه بشكل خاص باستهداف المدنيين عمدا.